الشبكة العراقية/
تصوير / علي الغرباوي/
في مساء الأول من تموز عام 1936 تجمهر العراقيون في المقاهي والساحات أمام جهاز خشبي صغير “راديو”، مرتبط بمكبرات صوت، ليستمعوا إلى مذيع الأخبار عبد الستار فوزي وهو يعلن “هنا بغداد”، فيما قرأ حلمي عمر أول نشرة أخبار إذاعية في أول بث حي لإذاعة بغداد، التي كانت آنذاك تسمى الإذاعة اللاسلكية العراقية.
كان تأسيس الإذاعة حدثاً تاريخياً أكبر مما يتخيله أصحاب فكرة تأسيسها، إذ إنها أسهمت بنقلة كبيرة في الوعي الاجتماعي، وتحولت إلى أداة فاعلة في التأثير الاجتماعي والثقافي والسياسي.
وقد أدركت الحكومات مبكراً أن هذا الجهاز الذي يتحلق حوله العراقيون إنما هو أداة سياسية خطيرة لتعزيز قوة السلطة ووسيلة لربط العراق بالعالم الخارجي. لذلك استثمرها الملوك والرؤساء والزعماء في توجيه خطاباتهم المباشرة إلى الشعب العراقي، لتعزيز مكانتهم لدى المواطنين.
وكانت الإذاعة الوسيلة التي أعانت قادة ثورة 1958 بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم على إسقاط الحكم الملكي وإعلان الجمهورية العراقية، لكنها أيضاً كانت المكان الذي شهد إسقاط حكومته من قبل “القوميين” وإعدامه فيها.
بصمة متوهجة
منذ تأسيسها ولغاية اليوم، ترك العديد من المبدعين والمبدعات بصماتهم في مسيرتها المتوهجة بالعطاء، من بينهم حسين الكيلاني، ومحمد لطيف، وغازي فيصل، ومهند الأنصاري.
وبالنظر إلى أهمية الإذاعة السياسية والثقافية، وحجم تأثيرها في الرأي العام، فقد عملت السلطات على اختيار مدراء يمثلون سياستها ويحظون بثقتها، حتى العام 2003 الذي ألغيت فيه العديد من الخطوط الحمر، لكن هيمنة الرجال على احتكار إدارة الإذاعة ظلت على حالها حتى العام 2016 الذي شهد مساعي حقيقية للدفع بشخصيتين نسويتين رائدتين في مجال العمل الإذاعي لتولي إدارة الإذاعة، هما أمل المدرس وسميرة جياد، حيث خاضت الأولى تجربة قصيرة قبل أن تتولى الثانية الإدارة التنفيذية، لتكون سميرة جياد بذلك أول مديرة للإذاعة منذ تأسيسها.
الحفاظ على التقاليد
ومنذ توليها المنصب، عملت جياد على إثبات جدارة النساء في تولي المناصب القيادية في العمل الإعلامي، ونجحت في الحفاظ على تقاليد العمل الإذاعي الصعبة، من دون أن تغفل أهمية التطورات التي حدثت في عالم الاتصالات.
بدأت جياد حياتها المهنية في هذه الإذاعة التي صارت تشكل جزءاً من شخصيتها، فمنحتها الكثير من وقتها وجهدها، وكانت شريكاً فاعلاً في مسيرتها المتألقة وبرامجها المتوهجة، والأكثر تأثيراً في المستمع العراقي.
وقبل أن تتولى إدارة أهم إذاعة عراقية، وثاني أقدم إذاعة عربية، كانت سميرة جياد قد لفتت الأنظار إليها بحسن إدارتها لإذاعة متخصصة بالمرأة هي إذاعة شهرزاد، ثم تولت إدارة راديو العراقية، لكن قلبها ظل معلقاً بالإذاعة الأم.
وبمجرد أن تولت مهام الإدارة، عملت جياد على ترسيخ التقاليد والقيم التي تأسست وسارت عليها إذاعة بغداد، وأعادت النظر بالعديد من البرامج والفعاليات التي لا تتسق وقيم الإذاعة، ومنحت نشرات الأخبار والبرامج السياسية المساحة الرئيسة في اهتمامها، من دون أن تغفل الاهتمام بالبرامج التنموية والفنية والثقافية.
مدرسة حقيقية
وخلال توليها إدارة الإذاعة عملت على استقطاب أهم الإذاعيين والإذاعيات الذين سجلوا حضوراً مهماً في مسيرة إذاعة جمهورية العراق، كما عملت، ولم تزل، على تحويل الإذاعة إلى مدرسة حقيقية لصنع كبار الإذاعيين العراقيين.
وتحتفظ إذاعة جمهورية العراق اليوم بأسماء بارزة لعدد من الأصوات الإذاعية المهمة، من بينهم سوسن فرحان، وصباح محسن، وحسن الأمين، وذكريات جواد، والعديد من المبدعين الذين يمثلون امتداداً لجيل الرواد الذين أسهموا في صنع تاريخ هذه الإذاعة.
ومع دعمها فكرة البث المرئي والحضور الفاعل على شبكات التواصل الاجتماعي، فإن مديرة إذاعة جمهورية العراق تؤمن بأن الإذاعة ترسم صورها بالصوت المؤثر والكلمة التي تحلق بخيال المستمعين، لذا فإنها ينبغي أن تظل محافظة على هذا السحر وهذه الفرادة، من دون أن تغفل أهمية التكنلوجيا ووسائل التواصل وضرورة توظيفها لخدمة الإذاعة وتقدمها.
وفي الذكرى 88 لتأسيس الإذاعة، أعربت مديرة إذاعة جمهورية العراق عن سعادتها بالعمل في واحدة من أهم الإذاعات العربية، مؤكدة إصرارها على التمسك بالرسالة التي انبثقت من أجلها الإذاعة، وظلت من خلالها محافظة على حضورها وهيبتها برغم التغيرات الهائلة في وسائل الإعلام.