زهراء الحسني /
داخل بيت طيني متهالك يعيش الكفاف بقناعة، يدرس على ضوء شمعة خافتة وأحياناً لا يجد غير بقايا ضوء مؤذ ترميه شاشة موبايله المحطمة. يبدأ يومه الصعب بتحد قد لا تحمد عواقبه حينما يقطع طريقاً طويلا من الغرائبيات المكانية على ظهر (بايسكل) ليواجه بمفرده عزلة الريف والطرقات الطينية الصعبة التي تفصله عن مكان المدرسة النائي كل يوم.
هذا الشاب المجتهد، النابغة بين أقرانه، هو ذاته عامل البناء والفلاح (الچادود) في المزرعة الذي حصل على معدل 98.57% بدون درجات الإضافة، بعد إعلان النتائج النهائية من قبل وزارة التربية العراقية، ليكون بذلك أوّل محافظة الديوانية بلا منافس.
مجلة “الشبكة العراقية” انفردت بلقائه المفصل للحديث بصراحة عن حياته العصيبة وكيف أنه امتاز عن أقرانه المترفين بمعدل يؤهلهُ لدخول الكلية الطبية.
*من القرية الطينية الى الطبية.. يخرج الشاب المجتهد من منزله الطيني الغاط بعتمة الكهرباء الغائبة والخدمات المعدومة متحدياً، كيف؟
– تفوقي هو تحدٍ كبير لكل ما عشته من ظروف عصيبة، درست بدون إسناد أية دروس خصوصية ولا أي معهد أهلي، وإنما توكلت على الله وبدأت بدراسة المواد (الفهمية) كالرياضيات والكيمياء من خلال متابعة مدرسين على اليوتيوب، أما المواد (الدرخية)، أي مواد الحفظ، فقد اعتمدت في قراءتها فقط على منهاج المدرسة وما يقدمه المدرسون، الى جانب ذلك استثمرت عطلة ما قبل الصف السادس وأحرزت فيها تقدماً في بعض المواد، والمواد الأخرى أكملتها بفضل الله قبل أن تبدأ السنة الجديدة، وما إن بدأ الدوام تابعت دروسي مع المدرسة، وكذلك استمررت في استثمار فرصة مدرسي اليوتيوب، وفيما يخص الوضع الخدمي داخل القضاء والبيت، فقطعاً كانت مشكلة الكهرباء قاسية ومدمرة جداً بالنسبة لي، إذ أنني في حال توفرها استمر على الإضاءة البسيطة في البيت، وفي حال انقطاعها استخدم إنارة الموبايل أو أية شمعة أو إنارة صناعية.
*على مسافة كيلومترات تفصلك عن المدرسة تذهب بـ (البايسكل) لتواجه بمفردك مخاطر الريف والطرقات الصعبة، ما يجبرك هنا، الظرف أم الطموح الصلب؟
– الطموح قطعاً، في الأيام الاعتيادية كنت أذهب الى المدرسة بواسطة (البايسكل)، أما في الأيام الممطرة فكنت أضطر للذهاب الى المدرسة سيراً على الأقدام حين لا تتوفر أية وسيلة نقل أخرى، لا أنكر أن تلك الوضعية كانت مرهقة جداً، ولاسيما أن أقصر الطرق للوصول الى المدرسة كان يبعد 5-6 كيلومترات عن منزلي، ناهيك عما يصادفني بتلك المسافة الطويلة في طريقي، كالكلاب السائبة، وكذلك الأمطار، إذ كنت أتعرض الى مضايقات شديدة، الى درجة أنني سقطت في إحدى المرات على الأرض في الوحل، فلم يزدني ذلك إلا إصراراً، لأنني بعدها قررت أن أسلك طرقاً أبعد للوصول إلى المدرسة حفاظاً على الدرس، ولكي لا يكون هذا الأمر عائقاً في طريق دراستي.
*حالات الإرهاق المعيشية والبيئية تأكل عادة من جرف النجاح مع الوقت، هل أكل التعب يوماً من طموحك، فصرخت كفى؟
– إن كل إصرار وكل تحدٍّ يقومان على الحافز، والكلام الذي كنت أسمعه من أهلي وأساتذتي وزملائي وكل أصدقائي، شكل حافزاً عظيماً للتحدي بالنسبة لي، فلن أنسى عباراتهم المفعمة بالأمل مثلاً “جعفر أريدك دكتور، جعفر إن شاء الله طب عام، دكتورنا المستقبلي.” وكذلك دعاء أمي الغالية حينما أسمعه كان يدفعني للاجتهاد أكثر وأكثر، وكذلك الواقع الذي كنت أعيشه مع أهلي من محدودية الحال، هذا لوحده كان كافياً أن يكون حافزاً ودافع إصرار وعزيمة بالنسبة لي لكي أغير واقع الحال لأرفع من مستوانا المعيشي، كذلك كنت أرى قصص نجاح وقصص تفوق لبعض الطلبة الذين كانوا يعيشون في ظروف صعبة وغير ملائمة للدراسة، لكنهم رغم هذه الظروف وصلوا وحققوا درجات ومعدلات عالية، فشكلوا بهذه القصص حوافز أستمد منها العزيمة والإصرار ، ولا أنكر أنني مررت بظروف وحالات من الإرهاق والتعب بسبب التركيز على الدراسة، لكن بفضل الله تجاوزتها بفضل إصراري.
*الوالد عمود خيمة كل بيت.. هل أرهقته وهو محدود الدخل بطموحك المكلف أم أنه كان فرحاً بكل ما يقدمه من تعب؟
– التعب الذي قدمه لي والدي كان راحة له، في الواقع كان لوالدي دور كبير في نجاحي بحصد المراكز الأولى في الدراسة، فهو الآخر كان يأمل بي خيراً ويعتبرني مثالاً وأهلاً لما يبذله، فلم يقصر بالشيء والقدر الذي يستطيع تقديمه، إذ كان كان يوفر لي الإنترنيت، وأية ملزمة دراسية احتاجها كان يبذل المستحيل من أجل الحصول عليها رغم دخله المحدود جداً، افتخر بأن لي أباً عظيماً.
*هل أنت محظوظ بأبناء قريتك أم محسود، وكيف وجدت الدعم المعنوي من جانبهم؟
– أنا محظوظ بكل من حولي، شباب قريتنا الأحبة، غالبيتهم كانت لهم مواقف أخوية وطيبة ومشرفة في كل مسيرتي الدراسية، الى درجة أن منهم من عرض علي أن يعطيني الملازم الدراسية ويمدني بالمصادر وبأي شيء احتاجه، ومنهم من كان يدعو لي دائماً بالتوفيق وتحقيق الأمل.
*المدرسون، هل كانوا يراهنون على نجاحك ويعتبرونك جهبذاً بإرادة حديدية، أم أن وصولك للطب في نظرهم كان أمراً صعباً؟
– بصراحة المدرسون كانوا يتأملون بي خيراً وكلامهم كان مليئاً بالأمل والطموح والتحفيز لأنهم كانوا ينتظرون متى أصل ومتى يرونني (طبيباً)، هكذا كان شعورهم الطيب الذي كنت أحسه وألمسه في كلامهم، فهم كانوا ينتظرون ثمرة تعبهم وخير مثالٍ ودليل على كلامي ثقة مدير مدرستي الذي كان متوقعاً أن أحقق الامتياز، وفعلاً لم أخيب ظنه وحققت ما تأمله لي، في كلامهم وجهدهم وتعبهم كانوا معي دائماً نحو الاستمرار فيما ابتدأتُه .
*لماذا اخترت الطب جعفر.. هل هي أمنيتك من الصغر أم لكي تثبت للناس أنك ستكون رغم أنف الظروف؟
-السبب الأول في اختيار هذا التخصص الذي أحبهُ هو لكي أخدم بلدي وأخدم مدينتي الحبيبة، وأيضاً أخدم ناسي، لأن تفوقي كان يضع في بالي الطب باعتباره المجال الذي أقدم من خلاله أكبر خدمة لأبناء شعبي، أما السبب الآخر فلأني أحتاج الى أن أقدم لأبي وأمي شيئاً كبيراً لأدخل السرور الى قلبيهما وأرسم البسمة على وجهيهما، وتخصص الطب بالذات كان أمنيتي منذ الصغر، بدأ في الابتدائية كأمنية غرسها في داخلي أساتذتي من خلال كلامهم الذي شوّقني إلى هذا التخصص، الى أن صار ذلك جزءاً من شخصيتي.
*الطلبة ممن هم في عمرك.. المنشغلون بالسوشيال ميديا، ما الكلمة التي تعتقد أنها كفيلة بـ إيقاظهم؟
– نصيحتي لإخواني الطلبة المنشغلين بالسوشيال ميديا والمبتعدين عن الدراسة: مواقع التواصل لن تبني شخصيتكم، ولن تنمي مواهبكم، ولن ترفع قيمتكم في المجتمع في حال إهمالكم الجانب العلمي، لأن الدراسة هي فقط من توصلكم الى القمة، وهي التي ترفعكم أمام الله تعالى أولاً، وفي قلوب الناس ثانياً، وحتى إذا كانت ظروف بعضكم صعبة فما عليكم إلا السعي، والله تعالى لن ينساكم لأن الإنسان إذا أصرَّ وصل مبتغاه، بل إن النجاح هو من يصنع الظروف.
*عرفنا أن لديك أمنية على شكل رسالة تربوية موجهة الى الحكومة ومنظمات المجتمع المدني..
– رسالتي كطالب، وكمواطن عراقي، الى الحكومة الموقرة وإلى منظمات المجتمع المدني، أن يركزوا اهتمامهم الكبير على الجانب التعليمي للشباب، لأن هذا الجانب هو فقط الكفيل بغرس الثقافة والقيم والمبادئ، وبالتالي فإن بناء مجتمع فكري حضاري وسليم لن ينجح ويدوم إلا من خلال إغناء هذا الجانب، وأن يستخدموا مختلف وسائل الترغيب من أجل جذب الشباب إلى طريق الدراسة وطلب العلم.