حوار / علي السومري – تصوير/ حسين طالب/
باحث إسلامي، ولد في بغداد عام 1960، حاصل على شهادة البكالوريوس من كلية الآداب، قسم اللغة العربية عام 1985، يرأس تحرير صحيفة المنتدى الثقافي الأسبوعية، وعضو اتحاد الأدباء والكتّاب العراقيين. إنه الكاتب جمعة عبد الله مطلك، السجين السياسي، الذي اعتقل لثلاث مرات في زمن الطاغية، والناشط في العديد من المنظمات الأهلية والمدنية.
صدر له كتابان مشتركان، الأول عن الإصلاح الديني، فيما تناول الآخر الشرعية السياسية، وله عدة مخطوطات في طريقها إلى النشر.
مجلة (الشبكة) حاورته من أجل تسليط الضوء على منجزه الفكري، حوار ابتدأناه بسؤال:
* كيف ترى تأثير واقعة الطف على الأدب العراقي، هل نجد ملامحها في السرد والشعر؟
– العراق هو البيئة الحاضنة للملحمة الحسينية، ومن الطبيعي أن يجد السرد والنثر أمثولة تتغذى به أنساقهما الأدائية على صعيدي المعنى والشكل. من النادر أن تجد أديباً عراقياً قد تجاوز الملحمة الحسينية في مجمل منتجه الإبداعي. ينطبق ذلك على شعراء العهد الأول، وصولاً إلى شعراء الحداثة والمعاصرة. ومع ذلك نجد هناك من يؤشر قصوراً للسرد الأدبي، خاصة لمأساة الطف، وسبب ذلك ما يعتقده الناقدون من غنى تراجيدي عميق للملحمة الحسينية في الواقع وفي الضمير الشعبي، ما يؤهلها (المأساة) أن تكون أكثر حضوراً في السرد العراقي، أكثر مما هي حاضرة بالفعل، والمثير في ذلك أن مقارنة يمكن أن يعقدها أولئك عن الحضور الأكثر حميمية للملحمة الحسينية في السرد المصري بأقلام أساطينه الكبار، مثل نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي وجمال الغيطاني وغيرهم.
* عُرف الموقف البطولي للإمام الحسين (ع)، ليس على نطاق محلي وإنما عالمي أيضاً، هل قرأت، وأنت الباحث في الشؤون الإسلامية، عن هذه الواقعة في الأدب العالمي؟
– أول ما تحضرني في ذلك السيدة الألمانية الرائعة (آن ماري شيمل، توفيت 2003)، التي كتبت عن الشعر الحسيني في اللغات الهندية والفارسية والعربية، وهنا لا يمكنني إدراج آن ماري شيمل ضمن قوائم المستشرقين، كما ينطبق ذلك على الفيلسوف الفرنسي الكبير (هنري كوربان). ولولا صفة الاستشراق القلقة، وغير المستساغة، فإنه يمكن إيراد أسماء الكثير من المستشرقين الذين كتبوا عن الثورة الحسينية باتجاهات متعددة، أخصها الشخصية المثلى للإمام الحسين وأهداف الثورة، وعلى الأخص الهدف المركزي للثورة في الحرية والعدل، الأمر الذي استشعره عميقاً شاعر المانيا العظيم (غوته، تـوفي 1832)، في المحاورة الافتراضية التي نشرها بين الإمام علي وفاطمة الزهراء، في البيت الذي يضمهما مع الحسن والحسين. كان غوته يبحث عن أفضل ما يمكن أن يقدمه للألمان عن الإسلام والمسلمين، فاهتدى الى هذه الحوارية الرائعة التي تمتد من الجزيرة العربية الى بحر الأزل، كما يعبر هو.
* برأيك، كيف يمكن للمشتغلين في عالم الثقافة استثمار هذه الملحمة الإنسانية؟
– بثت الملحمة الحسينية حيوية هائلة في الاجتماع والسياسة والثقافة العربية الإسلامية لأسباب مختلفة، لعل أهمها أهداف الثورة الحسينية المتضمنة أساسيات الإسلام التي حاول الأمويون (وبإجماع المسلمين) انتهاكها علناً وصراحاً. كذلك بسبب الثقل المعنوي غير الاعتيادي لشخص الإمام الحسين، المرتبط بشجرة النبوة وبالإمام علي.
عبّرت الملحمة الحسينية عن منهجية رفض إسلامية، أي من داخل الإسلام لانتهاك أساسيات الدين والحرية والشورى، وصيانة حقوق الإنسان والدفاع عن الفقراء والمعوزين، وهي المعاني الكلية التي بُعث النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) لاحيائها، بل وكانت الإبراهيمية في مجملها إحياءً وصيانةً لهذه المكاسب البشرية التي وهبها الله للإنسان.
اليوم، عند البحث عن تنوير إسلامي بموازاة القلق في تأخر الإصلاح الديني في الإسلام، فإن الملحمة الحسينية تمثل موشوراً مهما يبين صحة ورجاحة الأفكار المؤهلة لإنجاز هذا الإصلاح الذي تأخر كثيراً.
* هل تتفق مع من يقول إن هناك تقصيراً واضحاً من قبل المؤسسات الفنية والثقافية من جهة إنتاج أعمال تجسد هذه الثورة التي وقفت بوجه الفاسدين، وطالبت بإنصاف المظلومين؟
– سبق أن تداولت الأوساط الفنية العربية، بشكل واسع، محاولة المخرج الكبير مصطفى العقاد إنتاج فيلم عن النهضة الحسينية، على غرار فيلمي (الرسالة) و(عمر المختار)، غير أن ملابسات كثيرة منعت هذه الفكرة من التنفيذ، لكن الممثل المشهور نور الشريف كان قد تحدث بلغة مؤثرة عن ترشيحه لأداء دور الإمام الحسين، إذ قال: “لا يمكنني أداء هذا الدور، لأن عليَ بعد ذلك أن أعتزل الفن نهائياً، لأنه، ماذا بعد الحسين؟” على أن للتقصير في هذا المجال وجوهاً شتى، أهمها في تقديري التغافل عن الغنى الدرامي العميق لشخصيات الثورة الحسينية، على غرار الحر الرياحي ومسلم بن عقيل والإمام العباس وبرير بن خضير، وغيرهم من الذين اتخذوا مواقف حاسمة في ظروف شديدة الالتباس، وأن حياة هؤلاء تعد مثالية في التجسيد الدرامي إذا ما أتيح لها مُخرج جيد وتمويل مناسب، إضافةً إلى المساحة الواسعة المتروكة للنسوية الإسلامية المتمثلة بشخصيات عميقة التأثير، وعلى رأس هذه الشخصيات السيدة زينب والسيدة (دلهم) والسيدة (طوعة) وغيرهن، إذ تعاني النسوية الإسلامية من ظلم فني فادح، على الأخص في الثورة الحسينية، إذ لم ينصف المخرجون والممولون شخوص هذه النسوية الفذة.
* أصبحت شخصية الإمام الحسين (ع) رمزاً ضد الظلم، وأقواله شعارات ترفع بوجه الفاسدين والطغاة، هل يدل هذا على أن هذه الثورة حققت أهدافها باعتمادها منهاجاً إصلاحياً في كل زمان ومكان؟
– نعم بالتأكيد، وذلك ما دلت عليه أحداث ووقائع كثيرة، أولها الثورات العديدة التي زلزلت الكيان الأموي وأسقطته بفترة قياسية في عمر الإمبراطوريات. كما أرسلت الثورة الحسينية رسالة ممهورة بالإخلاص إلى الملة الإبراهيمية والشريعة المحمدية ومدرسة أهل البيت. ومن يقرأ على سبيل المثال تفاصيل ثورة أهل المدينة، يقف على حقيقة ما استنبتته الثورة الحسينية من وعي بخطورة ما جرى ويجري من مخاطر تمس جوهر الكيانية الإسلامية وكلياتها العامة والخاصة.
صحيح أن فكر الجبر والإرجاء الذي دعمه الأمويون قد أضحى في حصون تحرسها الرشا والمال الحرام والدعاوى الباطلة، لكن علماء الأمة تيقظوا بعد قتل الحسين، وبهذه الطريقة، إلى معنى ما يتقوله ويتزيا به حكام بني أمية بفكر الجبر والإرجاء، وهذه نقطة اعتبرها في غاية الأهمية بالتأثير على مجريات التطور الحاصل في التفكير الإسلامي عامة إزاء قضايا الحرية والمسؤولية والعقيدة السياسية.
* هل تحلم بمشروع شخصي لتخليد واقعة الطف وتجلياتها عبر كتاب أو فيلم أو عمل مسرحي؟
– تمتد علاقتي مع النهضة الحسينية منذ طفولتي مبكراً، حتى قبل أن تستوي قدماي على المشي، فقد كنت في صباحات التشابيه الحسينية أوضع على دابة تدور بي بين النظارة ولسان حالي يردد مع آخرين أكبر مني سناً:
“احنة اولاد مسلم والدهر خان …
فكنه من السجن بالله يسجان.”
وبعد أن تنتهي مراسم هذه الشعائر، يهجم الناس على الملابس التي يغطي بعضها رأسي ليأخذ كل منهم حصته للتبرك. استمرت هذه الشعيرة تلازمني فترة من الزمن، حتى سكنت خيالي، فبقيت أنتظر ما هو أكثر من المشروع الشخصي الذي أسهمت فيه بتأليف كتاب -بالمشاركة- عن أزمة الشرعية السياسية، تناولت خلاله من هذا المنظار تأثير النهضة الحسينية على الكليات الإسلامية في التفكير والتنظير، لكن الحلم الأكبر الذي انتظرته، وما أزال، هو انبثاق نظرية تربوية عربية إسلامية، تستوحي اللحظات المضيئة الكبرى من لحظات المسلمين، وعلى رأسها حدث المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وشخصية الإمام علي وثقلها المعرفي والأخلاقي الفريد، إضافة إلى الثورة الحسينية، وظهور المعتزلة ثم اختفاؤهم التراجيدي، كل ذلك في صياغات تربوية شيقة، نستطيع أن نفخر بالقول إنها نظرية تربوية عربية إسلامية على غرار الغرب، وليست محاكاة له.