رنيم العامري/
يطيب لي وصف الشحاذة بأنها حرفة تتطلب ذكاء اجتماعيا وخبرة في علم النفس ومخيلة فضفاضة ولسانا ساحرا، وأن محترفها إذا “سأل عينه الدمع أجابت”. هي حرفة تتطلب وجود الشحاذ في مكان يُشعر الناس معه بضرورة (دفع البلاء)، في الكراجات مثلا لدفع حوادث الطريق، في عيادات الأطباء لدفع ضرر المرض، أو بالقرب من المزارات والمراقد الدينية بسبب السمو الروحي الذي يشعر به الزائر فيكرِّم معه السائل بمثلما يوِّد ان يُكرم.
الشحاذة والسياسة
ويعزو بعضهم تزايد هذه الظاهرة الى تردّي الوضع الاقتصادي الذي تعيشه البلاد، من فقر وبطالة وقلة فرص العمل، بل وحتى ندرتها. ويجد المتسول في تكسّبه أكثر مما يحصل عليه في أي عمل آخر لا يخلو من المخاطر ولا يعود بالعوائد المجزية، وهناك الكثير من التقارير التلفزيونية التي صُورت بحيث يتخفى فيها المراسل التلفزيوني كشحاذ لمدة ساعتين أو ثلاث، وبعد ان يكمل مناوبة عمله الجديد يجد أنه قد استحصل على ما يعادل نصف مرتبه الشهري بسويعات معدودة.
والشحاذة ترتبط بالمتغيرات السياسيّة شأنها شأن السوق العالمية، فإثر كل نكبة يظهر جيل من الشحاذين وهم يستعطون الناس كونهم لاجئين من سوريا، أو نازحين من تلعفر.. وهكذا.
تتردد إلى مكان عملي فتاة عشرينية تمتهن الشحاذة، في البداية كانت تحتضن طفلا رضيعا وقد سلب الحر والدوران في الشوارع قدرته على الحركة، أو ربما كانت هي قد عمدت فدسّت له بمخدّر كما تفعل الكثيرات ممن يتسولن برفقة الأطفال، كل مرة تعود بنفس الجملة (إن ابنها بحاجة الى عملية جراحية)، أخبرتها أننا بحاجة الى عاملة نظافة براتب يكفل لها علاج ابنها، لكنّها أشاحت بوجهها عني ومضت تتبرّم. وفي المرة الأخيرة جاءت لتستجدي من دون ذلك الطفل، لكنّي لم أقوَ على سؤالها عنه.
مهنة لا تتطلب الكثير من العناء
في البصرة يقسم أحد اقاربي أنه رأى ذات مساء المتسول الذي يعجز عن الحركة حسب ديباجة استجدائه بسبب فقدانه ساقيه، وهو يتمشى في سوق العشار بساقيه اللذين يفقدهما صباحاً، في معجزة تتكرر بين اوساط الشحاذين من ذوي الأطراف المبتورة. قيل في الأمثال الدارجة (ابليس اشتغل بكل شغلة يوم وبالجدية اشتغل أربعين يوم)، في اشارة إلى مهنة لا تتطلب الكثير من العناء، فهذا الفقير “خفيف الظهر من كل حق، منفك الرقبة من كل رق، لا يلزمه اداء الزكاة، ولا تتوجه عليه غوائل النائبات، ولا يطمع فيه الأهل والجيران”. كما يصف ذلك الثعالبي في يتيمة الدهر.
في الكرادة اقترب منّي شاب لا تبدو على سيمائه الحاجة الى التسول، قائلا بلغة عربيّة فصيحة (هل لك بمساعدتي ببعض المال، يبدو أنك اشتريت الكثير من الأغراض، وحتى حقيبتك تبدو كبيرة ربما ستجدين فيها شيئا يمكنك الإستغناء عنه)، وبسبب طرافته اخرجت له بعضا من المال وذهب قبل ان اكمل ضحكتي واجيبه بأن حقيبتي مثل حقائب العديد من النساء تنتفخ بسبب تراكم الاغراض التي نعتقد لسبب ما اننا سنحتاجها فجأة، وبالطبع لانفعل أبدا.
أحيانا، قد ترافقك اللعنات فيما لو لم تلبّ حاجة شحاذ، فتتناهى الى سمعك سلسلة شتائم يقصدك فيها، فيما يتباعد عنك مستعطفا غيرك (الله لا يوفقك، الله لا يرزقك)، وربما قد ترافقها بصقة، فيما لو كان الحظ السيئ حليفك ذاك اليوم. وهنالك منهم من يطرق باب بيتك بحزم وإلحاح، أو من يستفز دفاعاتك فيما لو عمدت لذلك. حدثني أحد الأصدقاء أنه يتعمد تغيير طريقه فيما لو رأى شحاذة بعينها، معروف عنها أنها تشتم بالفاظ نابية وتضرب وتدّعي تعرضها للاعتداء إذا ما وجدت في نفسها الرغبة الى ذلك، وكم أحرجت الكثيرين لأنها لن تتوانى عن أذية هدفها الأعزل، الذي تختاره عادة، كما يقول هذا الصديق (شاب مرتّب).
صناعة العاهات
في المجتمعات الغربية، لابد للمرء أن يقدّم فعّالية تكون ذات نفع، كأن يقوم بالعزف في الشارع أو أن يرسم أو يرقص أو يغني، وحتى في إيران، فقد رأيت طفلا ينقر على الطبلة برفقة والده الذي يعزف على آلة الكمان، يجوبان شوارع طهران المكتظة يملآن النهار لحنا وغناء.
وقد تناولت السينما العربية حياة الشحاذين المليئة بالتفاصيل والدهشة، ففي أحد مشاهد فيلم (زقاق المدق) المستمد من رواية لنجيب محفوظ، يتوسل الرجل الفقير بـ (صانع العاهات) بالقول: “إعمل معروف إعميني كسّحني… أنا عايز آكل عيش… أنا عايز أصعب عالناس”. وحتى في فيلم (المتسول) الذي قام ببطولته عادل امام حين انتهى حلمه بالحياة في المدينة الى شبكة متسولين فيها اختصاصي يقوم ببتر الأيدي أو الارجل، أو فقء العيون، أو أيّة عاهة قد تكسب صاحبها ما يُعينهُ على (أكل العيش)!
شعراء الكُدية
أمّا في العصور التي كان الشعر يتسيّد الحياة فيها فقد برز ما يسمونهم بشعراء الكُدية. والكُدية لغةً: حرفة السائل الملحّ، ويقال لا يُكديك سؤالي أي لا يلّح عليك. وفي تفسير ما جاء في القرآن “وأعطى قليلاً وأكدى” أي انقطع فلا يعطي شيئاً. شعراء يقفون على أبواب الملوك والسلاطين مستعينين بمَلَكة اللسان للنفاذ من الفقر إلى الغنى. وكان رائدهم أبو الشمقمق الذي من مشهور قوله:
يا أيها الملك الذي جمع الجلالة والوَقارة
إني رأيتك بالمنام وعدتني منك الزيارة
إن العيال تركتهم بالمصر خبزهم العصارة
وشرابهم بول الحمار مزاجه بول الحمارة
ضجّوا فقلتُ تصبروا فالنجح يقرن بالصبارة
حتى أزور الهاشمي أخو الغضارة والنضارة
ولقد غدوت وليس لي الا مديحك من تجارة
ولم أقف على باقي الرواية، لكن يبدو أن الملك الممدوح قد أجزل له العطاء، بعد أن ضحك حتّى استلقى على قفاه – كما هي عادة الملوك- وأمر له بكيس من الدراهم وكسوة.