ريا الفلاحي
مثل بغدادي قديم. قصته أن رجلاً اشتدت عليه الديون، فأراد بيع منزله بضعف السعر، ولما سألوه عن السبب قال: “إني أبيعه بجيرانه.” هذا المثل، وغيره من الأمثال البغدادية، رسّخ داخل مجتمعاتنا فكرة الجيرة الطيبة وأهمية العلاقات الاجتماعية داخل المحلة. وقد اهتم البغداديون بعمارة منازلهم كاهتمامهم بالجيران والمحلة، حتى تشكلت هوية العمارة البغدادية التي ميزت أزقتها ومحلاتها وأسواقها.
البيت البغدادي يمثل مزيجاً فنياً ومعمارياً يراعي الظروف المناخية والاجتماعية لمدينة بغداد، ويعكس الثقافة العراقية التقليدية التي تحترم الخصوصية، وفي الوقت ذاته تعزز الروابط الأسرية والاجتماعية.
خصوصية العائلة
عمد المعمار البغدادي أن ينشئ مدخلاً ملتوياً غير كاشف لتفاصيل المنزل من الداخل ليحافظ على خصوصية العائلة، كما اهتم بالضيافة، إذ إنك فور دخولك المنزل سوف تواجهك صالة لاستقبال الضيوف، كان البغداديون يسمونها (الديوان أو قبة الخطار)، كما كان البيت يحتوي على (حوش) داخلي مفتوح تطل عليه غرف المنزل، ويتصدر باب السرداب في الحوش للنوم والقيلولة ظهراً أيام الصيف الحارة. كما استخدم البغداديون السطوح للنوم صيفاً، واستخدموا في البناء الطابوق البغدادي، وزينوا الواجهة بالشناشيل المصنوعة بحرفية عالية من الخشب.
وحين دخل الكونكريت والإسمنت في البناء، استعاض البغداديون عن الحوش بحديقة غناء، وأوسطوا منزلهم قطع الأراضي كي يحافظوا على خصوصيتهم، واكتسبت البيوت البغدادية في الستينيات والسبعينيات أحدث التصاميم العالمية بنوافذ كبيرة مزجت بين الحدائق وداخل المنازل بشكل كبير. واختفى شيئاً فشيئاً الطابوق و(الجفقيم) والشناشيل، وحل بدلها النثر والشبابيك الحديد والالمنيوم.
اغتيال الحدائق
في تسعينيات القرن المنصرم، أثناء الحصار الاقتصادي، وبسبب الحروب والفاقة، عانى البغداديون من أزمات في السكن والبناء، وقسمت المنازل الكبيرة، وصغرت المساحات الخضر وتحولت إلى مشتملات وشقق صغيرة دون هوية.
قانون الإسكان العراقي يمنع تقطيع الأراضي السكنية لأقل من مئة متر، ولا تسجل في العقاري، إلا أن المواطن احتال على القوانين لسوء ظرفه ولعدم المتابعة.
بعد عام 2003 نشأ في بغداد أكثر من خمسين حياً عشوائياً بدون هوية معمارية، بتشوه بصري حاد، وبنيت منازل لا يراعى فيها لا الضوء ولا مساقط الشمس والهواء ولا أي معيار حقيقي.
مجمعات سكنية
في العقد الأخير، شهد العراق عامةً، وبغداد خاصةً، نهضة كبيرة في إنشاء المجمعات السكنية الحديثة، التي بلغ عديدها في بغداد نحو 46 مجمعاً، وفقا لبيانات عام 2024. تشمل هذه المجمعات مناطق متعددة، مثل المنصور، والكاظمية، والسيدية، والشعب، إضافة إلى مشاريع ضخمة مثل مدينة بسماية التي تُعتبر من أكبر المجمعات السكنية. هذه المجمعات توفّر بيئة حديثة متكاملة مع مرافق متنوعة مثل المراكز التجارية، والمدارس، والمساحات الخضر، ما يجعلها خياراً جذاباً لسكان بغداد.
عادات اجتماعية
انتقال العراقيين إلى المجمعات السكنية الحديثة أدى إلى شبه اختفاء لبعض العادات الاجتماعية التي كانت شائعة في الأحياء التقليدية. لمتابعة هذا الموضوع زرنا أحد المجمعات السكنية، حيث التقينا مجموعة من قاطني المجمع في إحدى حدائقه، الذين أجابوا عن اسئلة مجلة “الشبكة العراقية”.
أخبرتنا السيدة نضال (أم سيف)، متقاعدة تسكن في إحد هذه المجمعات قائلة: “كانت عادة زيارة الأقارب دون موعد مسبق أمراً شائعاً في الأحياء التقليدية، إذ كان جرس الباب يرن دون موعد مسبق، وتفتحه لتفاجأ بزيارة أحدهم، في المجمعات صار لزاماً عليك أخذ موعد مسبق لإبلاغ الأمن في المجمع والسماح بالدخول، وأنا أجدها حالة جيدة تبعدك عن الإحراج.”
أما الأستاذ أبو أمير، مهندس مدني، فيقول: “في السكن الجديد لا يوجد جدار بين المطبخ والصالة، ولا توجد صالة للضيوف، تجد صالة للمعيشة فقط، لذلك أشعر أحياناً بالإحراج، في اضطراري لملاقاة أصدقائي في حديقة المجمع.”
في حين قالت السيدة أم مروان: “لم تختف عاداتنا، بل تعززت، ففي رمضان مثلاً عملنا سحوراً جماعياً فيما بيننا، نحن سكنة المجمع، وأقمنا مأدبة كبيرة في باحة المجمع، ما جعلنا نشعر بأواصر المحبة.”
وهو ما أكدته السيدة هبة، ربة بيت، التي قالت: “أشعر بالأمان، إذ إن أطفالي يلعبون في حديقة المجمع دون وجود سيارات أو غرباء، لذلك أستطيع الذهاب للتسوق وأنا مطمئنة.”
أمن وألفة
أما الدكتورة وئام فتقول: “المجمعات السكنية رحمة كبيرة، فأنا لا أفكر بالمولد الكهربائي أو (ماطور) الماء، كما أنني حين أسافر لا أقلق على مسكني الفارغ، لكون المجمع مجهزاً بنظام حماية، وجارتي تعتني بنباتاتي كلما سافرت.”
في حين قالت السيدة زينة: “المجمعات السكنية أعادت لنا الألفة، فنحن اليوم نعيش بحبوحة الأمان، وأبناؤنا يشعرون بالتقارب بعضهم مع بعض، وصار تقليدنا الجديد أن نتعاون فيما بيننا، فوجود مساحات مشتركة تجعلك تحترم القوانين التي تفرضها عليك إدارة المجمع مثل عدم الطّرق أو استخدام (الدريل) بعد الساعة الرابعة عصراً، أو في أيام الجمع والعطل الرسمية، إضافة إلى عدم السماح بوجود الباعة المتجولين، الذين يصدرون أحياناً نوعاً من الضوضاء.”
حياة مستقلة
الأستاذ مهند، موظف حكومي، يقول عن وجوده في المجمع: “سابقاً لم يكن باستطاعتي أن أعيش في سكن مستقل بسبب غلاء الأسعار، أما اليوم، وبفضل القروض والتسهيلات المصرفية أصبحت مستقلاً، بعد أن عشت لمدة أربعة عشر عاماً في غرفة واحدة مع ثلاثة أبناء في منزل والدي.”
يمكننا القول إن الكثير من الناس باتوا يفضلون السكن العمودي بسبب زيادة أعداد السكان، لكن القدرة الشرائية تلعب دوراً في تحديد نجاح هذه المشاريع. لذا فإن الأسعار المعقولة والخطط التمويلية سوف تكون عوامل جذب مهمة.
كما أعتقد أن من أسباب نجاح أي سكن عمودي، توفير خدمات متكاملة داخل هذه المباني، مثل المصاعد الحديثة، والأمن، والصيانة المستمرة، والمساحات الخضر، أو أماكن الترفيه. إن وجود هذه الخدمات تجذب النزلاء الجدد، إضافةً إلى الدعم الحكومي، عبر تحسين البنية التحتية، واستجابة المجتمع للتغيرات، ومنها ما اعتدنا عليه من احترام الجار وخصوصياته، ومشاركته أفراحه وأتراحه، من اجل خلق مجتمع سوي، ليزداد بريق هذا المثل البغدادي الأصيل، الذي يقول (الجار قبل الدار).