أربيل : ضحى مجيد سعيد/
تختلفُ الرؤى والمشاهدات حول فصلِ الخريف بالنسبة إلى كثيرين، فكل ينظر إليه من أوجه متعددة، هناك من يربطه بسنوات العمر، ومنهم من يراه كباقي فصول السنة لا فرق فيه، والبعض يراجع فيه الذكريات. وكثيرة هي أوصاف الخريف لا يسعها المقام، التي يرتبط بعضها بشكلٍ مباشر بنشأة الإنسان وذكرياته ومعتقداته ومنظوره وطبيعة المكان والزمان.
في أروقةِ مقهي (مجكو) في قلعة أربيل، استطلعنا آراء عدد من رواد المقهي الذي يرتاده في الغالب مثقفو المدينة وضيوفها بشان مفاهيم وصور من داخل الوجدان، إذ التقينا مدرس اللغة العربية (حسن أحمد) الذي قال: “لنغنّ جميعاً للخريف، فالعاشق للخريف يجمع بين التأملِ الملهم وقدرة استماع الصوت البعيد، فهو مقبل على عالم يريد مغادرةَ اللحظاتِ الخضر والدخول إلى عالم اللحظات التي ترى آخر النفق، أو تلك التي ترى قوس الانتهاء، صدقاً أنا لست كالذين ينظرون الى الخريف على أنه مرتبط ببداية الأفول والذبول ومغادرةِ مرحلة تسمى مرحلة الشباب، فالخريف عندي عملية إعادة ترسيم للحدود مع الربيع والدنيا، والقريب والبعيد، والصديق والطريق والمحب، وحتى ذاك الذي يضمر لنا الكره والحسد، فهو عندي حنظل له دور في الحياة، فلا يمكن أن يكون بكلّه هامش وفراغ.”
وأضاف: “أرى الخريف كضباب بريء يصاحب بحراً يبتسم ومحيط يغازل جزراً متناثرةً على راحتيه، الخريف عندي هو إبدال وظيفة السوط من كونه لاهباً للظهور إلى كونه غصن زيتون ينشد للسلام وسط صراعاتٍ تموج بها الروح، أو اضطرابات تعيشها الدنيا والعالم أجمع، فالخريف طبقة نسيم تصاحب وجه النهر لتجري معه حواراً عن الحب والضفاف، وأولئك الذين تسلقوا تاريخ جريانه منذ ولادته، فيما لا نعرف من الدهر إلا لحظة مروره قرب صبيةٍ تغسل رجليها بمائه العذب، ومن ثم تملأ قربتها بعذب الماء لتسقي ظمأ كبدها وظمأ أولئك الأطفال على قارعة الطريق، والخريف مساحة بين فصلي الصيف الشتاء، ومقطوعة تأمل كتبتها عقود من السنوات التي تحمل ملح الحياة، وذكريات تعادل حرقة استحضارها حرقة الفائت من السنين والمقبل منها، فالقادم لاشك سيكون قصيراً بطيء الخطوات، ويحتاج إلى عصا للتوكؤ وصحبة إبريق شاي لا يفرغ حتى في منتصف الصيف.”
وتابع : “إن الخريفُ يفتح لي أبواب السماء على مصاريعها، وكأني أراها لأول مرة وزاوية النظر إليها قد اختلفت، فبت أراها أكثر زرقة ولمعاناً، حتى سحبها تسير الهوينا، وكأنها سرب من البلابل الفضية التي تغرد بأعلى أصواتها ألا تخافوا من الخريف، فهو العنفوان والجمال والتأمل والانسياب إلى مكامن البوح البريء وخلود إلى نوم ليس فيه من الثقل ما يعكر صفو مزاج حبيبة تستلقي إلى جانبك على سرير دافئ وسط شتاء قارس، فبداية الخريف ليست نهاية للربيع بل إنها بداية قصيدة جديدة وتراتيل بوح لا تغلق نوافذه، فلنغنّ جميعا للخريف.”
دورة حياة
بدوره يقول (نبيل محمود) – كاتب وصحفي-: “حينما تتساقطُ أوراق الخريف مودعة الصيف تتهيأ البراعم لدورة حياة جديدة اسمها الربيع، ليبقى الخريف رحم انبثاق الحياة الجديدة، لم يكن الخريف أبداً مراسم لتوديع زهو الحياة، بل كان في أعماقه وجمال ألوانه وتراقص زخاته ورياحه إشارات لبدء مراسم خلق ربيع جديد للحياة.”
برد ورياح ومطر
أما (فريد حسن)، صحفي، فقال: “الخريف هو عنوان آخر لطبيعة أرقى وأجمل وربما أصفى، حيث اصفرار أوراق الأشجار وتساقطها، لتعطي الطبيعة وهجاً وجمالاً أخاذاً، ولتملأ الآفاق صفرة متناثرة في الأرجاء، إضافة إلى أن فصل الخريف إيذانٌ للناس بأن الشتاء مقبل ليستعدوا لاستقباله بكل ما يحمله من عواصف وأمطار ورعد وبرق وليهيئوا له الملابس التي تقيهم برودته.”
ويكمل: “من الطبيعي أن الفصول الأربعة تتوالى، ولكل فصل ميزة تحاكي الطبيعة وتفتح الآفاق رحبة للنمو والازدهار، ولاسيما في تغير درجات الحرارة واختلالها حيناً، حيث الصيف اللاهب والارتفاعٍ الملحوظ في درجاتها التي تخرج أحياناً عن مدار تحمل الإنسان، فهو فصل التنفيس عن الحر وتجاوز عليا درجاته، وهنا سحر لطيف وقشعريرة في الأماسي يشعر بها الإنسان، وأيضا في صباحاته الباكرة، كل ذلك إعلان عن الخريف وقدومه، ومن هنا تبدأ مرحلة جديدة في مسيرتنا مع الطبيعة التي لا تخلو من الجمال المزين والمطرز بأوراقٍ تعانق الأرض وتنتشر في البقاع لتغطيها وتحيلها إلى قطعة صفراء كأنها لوحة مرسومة بيد فنان.”
ويضيف: “نحمد الله ونسبِّح باسمه المبارك أن سخّر لنا كل ما هو جميل ولطيف وكل ما هو مؤداه إلى الحب والتواصل مع الطبيعة، إن الخريف فصل التلاقي مع الطبيعة بعد غياب..”
سيد الفصول
اما (محسن علي)، سائح اعتاد زيارة أربيل، فقد وصف الخريف بأنه سيد الفصول وقال: “إنه سيد الفصول لأنه يتميز ببعض من حر الصيف، وبعض من صحو الربيع، وبعض آخر من برد الشتاء، تتساقط أوراق الأشجار وتتناثر في الطرقات، لترسم لوحةً تمتزج فيها ألوان الأمل بتقلباتِ الحياة.”