حسن العاني /
الإيضاح الأولي مطلوب للتمييز بين مفردتين، الأولى هي الدالية ويراد بها البناء الحجري الذي يقام في الماء على ضفة النهر، مهمته حمل الناعورة، والثانية هي الناعورة ويراد بها العجلة الخشبية المزودة بأوانٍ فخارية ومهمتها رفع الماء من النهر وايصاله الى البساتين والأراضي الزراعية لأغراض السقي، ولكن الملاحظ أن اسم الناعورة قد تصدّر الواجهة، وأصبح يعني المفردتين وبذلك تراجع اسم الدالية حتى كاد ينسى.
ومن يعرف أسرار الدائرة قادر على تأسيس الحضارة الكونية، وقد كان العراقيون سادة هذا الشكل الهندسي يوم اخترعوا “العجلة” البرية ونقلوا عبرها أربعة أرباع معارفهم العلمية الى العالم القديم، ثم ابتكروا قبل آلاف السنين ناعورة الماء (الدائرية) فعلموا البشرية اول وسائل الري وارقاها، وأنها لمفارقة طريفة حقاً ألا تصمد اعظم منجزات الثورة الصناعية أمام عاديات الدهر ومتاعب الاستهلاك سوى بضعة عقود، في حين تواصل نواعير الفرات عملها الدؤوب ودورانها الذي لا يتوقف منذ اكثر من 3600 سنة من دون أن تشكو وهناً او آلام مفاصل ومن غير أن تكلف اصحابها زيتاً او وقوداً او مواد احتياطية. وأهم من ذلك أن أياً من منظمات الصحة او البيئة لم تشهر في وجهها يوماً بطاقة صفراء.
في ما رواه الحاج حمدي عفتان احد الفولكلوريين المعنيين بالنواعير وفي ما كتبه الحاج نجاح الهيتي في مؤلفه الموسوم (شذرات من تراث هيت)، وفي ما أجمع عليه العاملون في مركز إحياء التراث العلمي العربي في جامعة بغداد، وبالتعاون مع اساتذة جامعة الأنبار، يمكن الاطمئنان الى احتجاجهم بالأدلة الجغرافية واللغات القديمة والمكتشفات الآثارية على أن الدالية، هي الابنة الشرعية لسكان وادي الرافدين، وان مصدرها حقاً ذاكرة التاريخ البعيد.
تذهب اولى الروايات الى القول بأن المنطقة الواقعة بين مدينتي هيت وعنه كانت موطناً لجنّة عدن يوم كان نهر الفرات أعلى من الأرض المحيطة به كما تدل على ذلك الطبقات الرسوبية أي أن السقي كان يتم سيحاً، ولكن انخفاض الماء التدريجي خلال الخمسة آلاف سنة الأخيرة أدى الى متاعب إروائية جمّة، دفعت سكان “الجنّة” وهم الساميون القدماء، الى ابتكار أسلوب إروائي يناسب الوضع الجديد، اي ارتفاع مستوى الأرض عن الفرات، وتمثل الابتكار بالمحطة الحجرية العملاقة (الدالية) ودائرتها الخشبية (الناعورة)، إلا أن سؤالاً يفرض نفسه هنا وهو: من يثبت أن القدامى قد توصلوا الى هذا الاختراع الذي يعد سابقاً لعصره ومتقدماً على ما بلغته علوم الهندسة؟
هنا تبدأ الرواية الثانية المستمدة من لغة قدامى العراقيين انفسهم، ذلك لأن كلمة “ناعورة” مشتقة من الفعل ” نئارو” او ” نعارو” والفعل “نئارو” في اللغة العراقية القديمة معناه “نعر” والناعور مشتق من لفظة “نعر” التي يراد بها في اللغة العربية “الصوت العالي”، ومن المعروف أن الصوت العالي المصحوب بالشجن هو من اهم مميزات الناعورة، وحين تقول إن هذا الدليل اللغوي وحده لا يكفي حجة على هذا الإنجاز الهندسي، تبدأ الرواية الثالثة التي لا يرقى اليها الاعتراض لأن التنقيبات الإنقاذية التي اجريت قبل الشروع ببناء سد حديثة بالقرب من مدينة “الفحيمي”، في منتصف المسافة بين حديثة وعنه، قد مكّنت المنقبين من العثور على العديد من الكسر الفخارية التي يعود تاريخها الى الألف الأول قبل الميلاد. وهذه المكتشفات الفخارية هي عبارة عن أوان اسطوانية هي نفسها الأواني الأسطوانية التي لا تزال مستعملة الى اليوم من دون أن يطرأ عليها اي تغيير او تحوير، حيث تربط على محيط الناعورة، ويجدر التنويه هنا الى أن هذه الأواني يتناسب وزنها مع القدرة الجسدية للناعور على رفع الأثقال الإضافية فوق محيطه الواسع.
رحلة حول العالم
تشير الأبحاث التاريخية والآثارية الى أن العراق هو موطن النواعير الأول، ومنه انتقل الى مدن العالم الأخرى التي تعاني مشكلة الري بسبب ارتفاع اراضيها نسبة الى الأنهار، ذلك لأن نظام الدالية العراقية اكد بأنه الأمثل كونها، على حد تعبير العلّامة أحمد سوسة، صممت بطريقة هندسية بارعة لم يتمكن العلم الحديث من تطويرها الى شكل افضل. يقطع الفرات اكثر من 1200 كيلومتر عبر جريانه في الأراضي العراقية ومع ذلك فإن منطقة النواعير محصورة بمسافة قدرها (200 كيلومتر) تقريباً، وهي المعروفة باسم “أعالي الفرات” ما بين هيت صعوداً ومدينتي عنه وراوة المتقابلين، ولعل طوبوغرافية النهر والأراضي المحيطة به في منطقة اعالي الفرات هي التي تفسر أسباب قيام النواعير، وزيادة على ارتفاع مستوى الأرض فإن التيارات في هذا الجزء من الفرات سريعة وقوية وهو أمر بالغ الأهمية لتدوير عجلة الناعورة الثقيلة.
مع متاعب الإرواء الناجمة عن تكوين الأرض – النهر والتي قادت الى التفكير بالدالية، فإن سكان المنطقة الذين اختاروا هذا المكان نظروا الى الأمر من زاوية أخرى، فهذه الرقعة الجغرافية تقع فوق مستوى أعلى الفيضانات بمعنى أن مناسيب الفرات في هذا الجزء مهما ارتفعت لا تهدد بالغرق.
سيرة ذاتية
لا يختلف بناء الدالية عن أي مشروع اروائي حديث سواء من حيث الخطوات المتبعة ام من حيث الجهود وتوفير المواد الاولية، ومن هنا تسبق البناء مهمة تحديد المكان الذي يجب ان يراعى فيه توسطه للتجمعات السكانية، وتبدأ خطوة العمل الاولى بتوفير أطنان من احجار الكلس ومادة النورة – البديل القديم عن الاسمنت المقاوم- وتتوقف كمية الاحجار كما يذكر الحاج حمدي على الدالية وما اذا كانت مخصصة لناعور واحد او اكثر (قد يصل عدد النواعير في بعض التجمعات السكانية الزراعية الى عشرة وهذا يتطلب عدداً مماثلاً من الدواليــــــــــــب)، ويصف الدكتور صالح فليح حسن في دراسته الخاصة بإنشاء الدالية عملية البناء على النحو الاتي: ترمى تلك الاحجار عبر مجرى النهر على شكل اكوام تسير مع اتجاه التيار بعرض مترين تفصل بينهما مسافة مترين ايضاً، وبطول يتراوح ما بين 9-10 امتار، حتى اذا ما ظهرت اسس البناء تبنى فوقها جدران عريضة (1-1,5 متر)، يقوم فوقها بناء اخر اقل سمكاً لكنه اكثر ارتفاعاً، وعلى هيأة عقود مثلثة او دائرية. وفي قمة العقود يتم بناء الساقية التي تستقبل مياه الناعورة وتتولى توزيعها. ويلاحظ ان الساقية تكون شديدة الارتفاع في الجزء المحاذي للناعورة، ثم تأخذ في التناقص كلما ابتعدت حتى تصل الى مستوى الارض عند بلوغها المناطق الزراعية.
تتضمن خريطة الدالية توفير فتحة في قاعدة البناء تدعى السيب (بكسر السين) تساعد على مرور الماء منها مروراً سريعاً وقوياً يعمل على تدوير الناعورة كما تتضمن بناء ممر او ممشى بعرض 60-80 سنتمتراً يستعين به السكان للوقوف واجراء بعض الاصلاحات على الناعورة ، كربط خشبة او انية فخارية او ابدالها، ولكي تؤدي الدالية عملها بصورة متقنة، يضاف الى معمارها الخارجي عنصر جديد يدعى السِكر، وهو حاجز مائي يتكون من وضع عشرات المئات من الصخور فوق بعضها البعض في الماء والى ارتفاع 40 سنتمتراً فوق سطح الماء، يبدأ من جسم الدالية ويمتد في النهر الى مسافة طويلة جداً ووظيفته حجب الماء ودفعه الى فتحة السيب كي يكون جريانه قوياً، وتزداد الحاجة الى السكر كلما انخفضت مناسيب المياه في الفرات.
دائرة الحياة
وبقدر البساطة التي يوحي بها مشهد الناعورة، بقدر ما يتضمن من تفاصيل واسرار صناعية ودقة متناهية في العمل ولعل اول ما يسترعي الانتباه ذلك العدد الهائل من الاشجار التي يلزم توفيرها لإنجازه، فهي تزيد في العادة على (100) شجرة كلها من التوت لما تتميز به جذوعها من خاصية التعامل مع الماء، يتراوح قطر الناعورة بين 10-12 متراً ويتألف المحيط من عجلتين او طوقين يسمى الخارجي (الظهارة) والداخلي (البطانة) وتتصل بهذا الاطار المزدوج مجموعة عيدان تسمى (الصلبان) كل صليب يمثل نصف القطر، ويتباين عددها على وفق حجم الناعورة، تلتقي كلها عند المحور المركزي الوسطي، وهو عبارة عن جذع شجرة (فحل التوت) يعد اعداداً خاصاً لهذا الغرض، فهو لا يقطع الا بعد ان تمضي عليه اكثر من (20) سنة كي يكتسب الصلابة المطلوبة والقدرة على تحمل اثقال الناعورة.
وتطلق على هذا المحور مسميات عدة بحسب المنطقة مثل العابر، العوبر، الجبة، وهو بطول 4-6 أمتار اما قطره فبين 50-60 سنتمترا. ويوضع فوق بناء الدالية عند فتحة السيب ويستند طرفاه على خشبتين تحته من اشجار المشمش او التوت، وتدعى كل خشبة (السندان) ويجري باستمرار (تزييت) السندانين لمنع احتكاك الخشب وتسريع دوران الناعورة.
واذا ما تجاوزنا الكثير من التفاصيل كالأربطة والقيود والمسامير الخشبية فان ما هو واضح للعيان يتمثل بالسرايج مفردها سريجة وهي زعانف مصنوعة من سعف النخيل تلحق باطار الناعورة لمنحها طاقة حركية اكبر، ويبلغ عددها بين 8-12 سريجة هناك ايضاً دلاء الماء الفخارية ذات الشكل الاسطواني وتسمى الكوز (بضم الكاف وفتح الواو) ومفردها كوز، وهي كلمة عربية، لكن الاسم الشائع لها هو القواقة (ومفردها قوق) وعددها يتوقف على سعة الناعورة.
إنّ هذه المحطة الاروائية ذات مردود اقتصادي كبير، فهي لا تكلف الات او معدات او وقوداً او طاقة كهربائية وتبقى في الخدمة مئات السنين، ولا تحتاج الا الى تبديل خشبة او مسمار او سريجة او قوق في مدد زمنية متباعدة، ويذكر الحاج نجاح الهيتي ان الارواء بواسطة الناعورة انفع للزراعة من الآلات الحديثة لان مياهه تصل الى المزروعات بصورة هادئة ومتزنة، ويبقى بعد ذلك السؤال الاكثر ايلاماً: لماذا احيلت هذه المحطات التاريخية على التقاعد وهي في عز شبابها، ولم تبلغ السن القانونية؟