السجّاد اليدوي في بغداد.. تراثٌ يصارع البقاء وسط زخم الحداثة

ريا محمود

بين الأزقة الضيقة لمدينة الكاظمية العريقة، وعلى وقع خطى الزائرين المتجهين إلى مرقد الإمام الكاظم، يحتضن شارع أكد واحدًا من كنوز العراق الخالدة، معمل السجاد اليدوي. تأسس هذا المعمل منذ عقود، ليحافظ على إرث من المهارة اليدوية والفن الأصيل الذي نسجته الأيادي العراقية بحب وصبر. هنا، تتقاطع خيوط الماضي والحاضر لتروي قصة تراث مُهدَّد بفعل التحديات الاقتصادية والمنافسة الصناعية.

هوية تاريخية
تأسس معمل السجاد اليدوي في الكاظمية في ستينيات القرن الماضي، ليكون منارة للحِرف اليدوية وصناعة السجاد الجداري الفاخر. ومنذ ذلك الحين، تزينت جدران المعرض الداخلي للمعمل بأعمال فنية مصنوعة من الحرير والصوف، تحمل نقوشًا مستوحاة من التراث العراقي والمناظر الطبيعية. المعمل جزء من الشركة العامة لصناعات النسيج والجلود، وهو يُعتبر مركزًا يجمع بين الحرفة اليدوية الأصيلة والرؤية الفنية.
وكان قد أعيد تأسيس مصنع للسجاد اليدوي داخل مصانع الصوفية العراقية في عام 1993.
يُعد السجاد اليدوي العراقي واحدًا من أبرز الفنون التراثية التي تحظى بتقدير واسع داخل العراق وخارجه. يتميز بنقوشه الزخرفية وألوانه الزاهية التي تحمل رموزًا مستوحاة من التراث العراقي الغني.
قيم إنسانية
تُعد الأيدي العاملة في المعمل قلبه النابض؛ معظم العاملات هنا نساء من ذوات المهارات العالية، يتجاوز عددهن العشرين، ويعملن بدقة متناهية على أنوال مصنعة يدويًا، حيث تقضي كل واحدة منهن أشهرًا في نسج سجادة واحدة. تقول السيدة أم سارة، إحدى الحرفيات المخضرمات: “صناعة السجاد اليدوي ليست مجرد عمل؛ إنها حياة كاملة من الصبر والإبداع.” وهي تعمل في صناعة السجاد منذ ما يقارب الثلاثين عامًا.
يوجد معملان رئيسان للسجاد اليدوي في بغداد: الأول يقع في منطقة الكاظمية، والثاني عند معمل السجاد الميكانيكي قرب بسكولاتة. يعمل في هذين المعملين حوالي 150 حرفيًا، يتمتعون بخبرة طويلة في الحياكة اليدوية. يحتوي المعملان على أكثر من 30 تصميمًا تقليديًا وحديثًا للسجاد، ما يعكس تنوع الأذواق والأنماط.
يحرص كادر قسم التصاميم على تحويل اللوحات الفنية العراقية إلى تصاميم رقمية يمكن من خلالها صناعة لوحات وصور وأنماط عراقية مختلفة تماشيًا مع رغبة مقتني السجاد.
التحديات الحالية
يواجه المعمل تحديات متعددة، أبرزها المنافسة من السجاد الصناعي المستورد، الذي يغزو الأسواق بأسعار أقل وجودة متفاوتة. الوزير الحالي للصناعة والمعادن، خالد بتال النجم، أشار في تصريح صحفي إلى أن “صناعة السجاد اليدوي، برغم قيمتها التراثية العالية، أصبحت غير ذات جدوى اقتصادية في ظل التكلفة العالية والطلب المتراجع.” هذه الكلمات تعكس واقعًا مريرًا يُهدد استمرار هذه الحرفة.
إحدى الحرفيات التي تعمل في المعمل منذ أكثر من عشرين عامًا، حدثتنا عن عشقها لهذه الحرفة قائلة إن “العمل على نسج السجاد يتطلب صبرًا ودقة. نحن نضع قطعة من أرواحنا في كل سجادة نصنعها.” لكنها تشير بحزن إلى تراجع عدد الحرفيين، إذ يفضل الشباب العمل في مجالات أخرى بسبب تدني الأجور وصعوبة المهنة. لذلك تحرص إدارة الشركة العامة لصناعة الجلود والمنسوجات على تحفيز العاملين وتطوير سبل تسويق المنتج من أجل ديمومة الإنتاج.
الإنتاج والطلب
ينتج المعمل عشرات السجادات الجدارية سنويًا، تُستخدم في المنازل والمؤسسات الرسمية. لكن الإنتاج يتراجع عامًا بعد آخر بسبب قلة الدعم وارتفاع تكاليف المواد الخام. ورغم ذلك، تبقى التصاميم العراقية فريدة بنقوشها التي تجمع بين الرموز البابلية والأشكال الإسلامية.
جهود الاحياء والدعم
المعرض الدائم للشركة العامة لصناعات النسيج والجلود هو أحد المعارض الرئيسة المخصصة لعرض منتجات السجاد اليدوي في العراق. يقع في منطقة الكرادة ببغداد، حيث يتم عرض تشكيلة واسعة من السجاد المصنوع يدويًا، بما في ذلك السجاد الجداري الفاخر وسجاد الأرضيات الذي يعكس التراث العراقي العريق.
يهدف هذا المعرض إلى تعزيز حضور السجاد اليدوي في السوق العراقية وتعريف الجمهور بجودته العالية وتصاميمه المتنوعة المستوحاة من التاريخ والثقافة المحلية. كما يوفر فرصة للراغبين في اقتناء قطع فنية ذات قيمة جمالية وتراثية. يتميز المعرض بكونه وجهة دائمة للراغبين في التعرف على هذه الحرفة ودعم الصناعة الوطنية، إضافة إلى كونه نقطة تسويق مباشرة لمنتجات معامل السجاد اليدوي التابعة للشركة، مثل معمل الكاظمية.
في الأربع سنوات الماضية، قامت وزارة الصناعة، بالتعاون مع وزارة الثقافة، بتجهيز وزارة الثقافة بسجاد يدوي يمثل أبرز معالم العراق الأثرية من أجل تحويله إلى هدايا تقدم من قبل وزارة الثقافة، كما تم تجهيز نقابة المهندسين بسجاد عراقي لتعزيز الصناعة الوطنية.
الخاتمة
يبقى معمل السجاد اليدوي في الكاظمية شاهدًا على قدرة العراقيين على صون تراثهم رغم التحديات. ومع كل خيط يُنسج بإتقان، تستمر قصة عشق لا تنتهي بين الأيادي الحِرفية والأرض التي استمدت منها ألوان الحياة.