يوسف المحسن/
قارب عمره أكثر من 4000 عام، إنه اكتشاف فريد من نوعه في مدينة أوروك الأثرية، أعلن عنه مع استئناف معهد الآثار الألماني أعماله في الموقع الأثري، الذي وصفته مديرة المعهد الدكتورة (مارغريت فان آس) بأنه (جنة) بالنسبة لعلماء الآثار.
إذ أن فريقاً من معهد الآثار الألماني يعمل حالياً لاستخراج قارب أثري يقترب عمره من أربعة آلاف عام عُثِرَ عليه في المنطقة المحيطة بسور مدينة أوروك التاريخية.
ويعد القارب، الذي يبلغ طوله سبعة أمتار، قطعة ثمينة لا مثيل لها في العالم، وأن الفريق التنقيبي المشترك سيرفع القارب تمهيداً لإرساله إلى المتحف الوطني العراقي.
ويقترب عمر القارب المكتشف في أوروك من عمر القارب المصري الذي اكتشفته بعثة تشيكية جنوبي القاهرة، الذي يرجع إلى عصر الدولة القديمة المؤسسة لمصر الفرعونية. إلا أن القارب المصري ظل في مكانه لسوء حالته، بينما سيجري رفع القارب العراقي ليعرض في المتحف الوطني، ليكون بذلك أقدم قارب يمكن نقله ومشاهدته في العالم.
وشهد العام الحالي المزيد من الاكتشافات في حضارة ما بين النهرين، بعد أن استأنفت البعثات التنقيبية الأجنبية أعمالها في العديد من المواقع الأثرية العراقية.
مدير عام دائرة التحريات والتنقيبات في الهيأة العامة للآثار والتراث، علي عبيد شلغم، قال إن وزارة الثقافة والسياحة والآثار تواصلت بشكل جدّي مع هذه البعثات، وقدمت لها التسهيلات المطلوبة للعودة بعد الانقطاع بسبب الجائحة. شلغم أكد أن أعمال التنقيب والصيانة والترميم تجري بمواقع في الموصل والديوانية والناصرية والنجف الأشرف والمثنى وباقي المدن، كاشفاً في حديث لـ(الشبكة) عن العديد من الاكتشافات الأثرية المهمة والفريدة من نوعها في العالم، التي تم العثور عليها، وأن فريقاً من معهد الآثار الألماني يعمل حالياً لاستخراج قارب أثري يبلغ عمره اكثر من أربعة آلاف عام عثر عليه في المنطقة المحيطة بسور مدينة أوروك التاريخية. مشيراً الى أن القارب، الذي يبلغ طوله سبعة أمتار، يعد قطعة ثمينة لا مثيل لها في العالم، وأن الفريق التنقيبي المشترك سيرفع القارب تمهيداً لإرساله إلى المتحف الوطني العراقي.
أوروبيات في أوروك
الدخول الى مدينة أوروك التاريخية، وحال عبور السياج المشيد على بقايا السور الذي بناه الملك كلكامش، الذي أصبح شخصيةً مهمة في الأساطير السومرية خلال حقبة سلالة أور الثالثة (2112- 2004ق م)، يقفز الى الذهن تاريخ بناء السور في سنة 2004ق م وإعادة تشييده بصورته الحالية في العام 2004م، الموقع بزقورته ومعبده ومشيداته التي قاومت الزمن، تحول الى ورشة كبيرة يتوزع فيها آثاريون قدِموا من بلدان عدة ضمن بعثة معهد الآثار الألماني، فقد عبرتْ مديرة قسم الشرق في المعهد، الدكتورة (مارغريت فان آس)، عن سعادتها بالعودة للعمل في الموقع بعد الانقطاع. مضيفةً أن عمل البعثة الألمانيّة يسير حاليّاً باتجاهين: الأول هو توثيق وترقيم وترميم القطع الآثاريّة واللقى التي عثر عليها قبل الجائحة، والثاني خارج السور حيث تتواصل أعمال التنقيب. الدكتورة فان آس، التي أمضت سنوات طوال في مهمتها بالمدينة، حتى أطلقت عليها تسمية (سيّدة أوروك الجديدة) أشارت الى “أن موقع أوروك التاريخي غني عن التعريف، وهو يمنح علماء الآثار حقائق للتعرف على خمسة آلاف عام من الحضارة الرائعة، وفي فترة زمنية فريدة، حيث يمكننا تلمّس أهم ميزات وانماط الحياة في تلك الحقبة.” وتضيف -وهي تتوسط المقتنيات وملامح الانبهار تُغطّي وجهها-: “المقتنيات من حولي شيء رائع، قطع آجر وطابوق مزينة بأشكال ونجوم وشمس وسعف نخيل، عثرنا عليها قبل الجائحة وعدنا لها اليوم، هذه القطع شبيهة بالموجودة في واجهة (كرائندش) المعروفة بمبنى آخر في أوروك وعمرها يقترب من 3400عام، العمل هنا ساحر وميسر بشكل أفضل من ألمانيا ذاتها، لأن جائحة كورونا أقل وطأة هنا -والحمد لله- مقارنة ببلدي، لهذا نحن سعداء بقدرتنا على مواصلة العمل وبوجودنا في أوروك، التي هي جنة للآثاريين، وبغض النظر عن التلف السطحي للمقتنيات والآثار نتيجة عوامل الطقس فهي محفوظة بشكل بديع يُمَكِّن الآثاري من استعادتها.”
يوليا أنادور في الباحة
غادرنا قاعات المشغل الى الباحة التي تتوسط المبنى المخصّص لأعمال البعثة التنقيبية، أمام طاولة خشبية بسيطة تجلس عالمة الآثار (يوليا أنادور)، التي كانت منهمكة مثل صائغ حلي ثمينة بقطع وشظايا المقتنيات الأثرية التي تعمل على تحليلها وإعادة تشكيلها من جديد، وطوال حديثنا معها واصلت العمل وكأنها في سباق مع الزمن. أنادور قالت “من خلال التدرج اللوني لمقاطع اللقى الجانبية، يمكن إعادة تجميع وتشكيل هذه اللقى المتضررة، إنه عمل شاق ودقيق، لكنه لا يخلو من المتعة، لقد اعتدنا عليه بفعل تخصصنا، ونحن ندرك القيمتين التاريخية والعلمية الكبيرة لهذه المقتنيات.”
عبارات الدكتورة يوليا أنادور أعادتنا الى ما سمعناه من شرح قُدِّم في داخل المشغل من قبل عالمة الآثار الألمانية الدكتورة (أورنيكا)، عضو البعثة، وترجمته عن الألمانية الدكتورة والمعمارية ميسون عيسى، الذي جاء فيه أن “القطع التي عثرنا عليها نحاول جمعها للتعرف على شكلها الأصلي وعلى تقنية صنعها، إن كانت قطع الآجر قد جرى صبّها في قوالب أم نُحِتَتْ باليد، هنالك تفاصيل صغيرة في القطعة الأثرية يمكن أن تمنحنا دليلاً على طريقة الصنع، هذه القطعة فيها جزء بارز يشبه أشعة الشمس او سعف نخيل، وهو ما يشير الى التقنية الدقيقة في صنعها، كما نلاحظ وجود آثار لحصير القصب في الجزء السفلي من المنحوتة، ما يدل على أن القوالب كانت بأربعة أجزاء، نحن أمام تقنيات عمرانية مذهلة!”
الدكتورة ميوغ خارج السور
“على غير رغبة منا غادرنا مدينة أوروك العابقة بحكايات وحكايات، فالمكان يصعب تركه لما فيه من دهشة وجمال.” هذا ما قالته السائحة (ميلاني)، وهي شابة ألمانية تنحدر من أصل إندونيسي قَدِمَتْ إلى الموقع بعد أن قرأت عنه كثيراً. ميلاني تابعت “سمعت كثيراً عن أوروك بعد إدراجها على لائحة التراث الإنساني، قرأت عن قصصها وحكاياتها ودورها التاريخي، أشعر بالأمان هنا والأهالي يرحبون بي في كل مكان، أشجع أصدقائي على زيارة أوروك لأنها شهدت اختراع الكتابة والنظم الحضارية الأولى.”
على طريق ترابي يتلوى مثل أفعى عملاقة، او مثل ذراع من أذرع الوحش خمبابا، الذي قتله الملك كلكامش، كما تقول الأسطورة، سارت بنا المركبة الى موقع التنقيبات الذي يبعد ثلاثة كيلومترات الى الشمال الشرقي من مركز المدينة القديمة، الفريق التنقيبي الذي تترأسه المديرة الثانية في قسم الشرق بمعهد الآثار في برلين، الدكتورة (سيمون ميوغ)، يستخدم مجارف صغيرة وفرشاً خيطية ومعدات غاية في الدقّة، وتتجمع حول القارب الأثري المكتشف، والمهمَّة تتلخَّص برفع القارب الأثري الثمين مع الحفاظ عليه، وهي عمليّة تحتاج الى مشرط طبيب وصبر آثاري، ميوغ قالت: “القارب الذي اكتشفناه يعود الى أربعة آلاف عام، وربّما أحدث، تقييمنا للمقتنيات واللقى والفخاريّات المتوافرة حوله يشير الى هذه الحقبة، ما نقوم به هو البحث عن ادلّة تُرشدنا إلى عُمْرِه، نجري دراسات على عينات مختلفة سوف تساعدنا في ذلك.”
العثور على القارب يشير الى قراءات تاريخيّة جديدة يمكن أن تعزز وتدعم النظريات حول المنطقة المحيطة بسور أوروك القديمة، ونوع الأنشطة التي كان يمتهنها السكّان في تلك الفترة، إذ يُعتقد أن امبراطورية كبيرة قد بُنيت هناك. عن ذلك تابعت الدكتورة ميوغ حديثها “المنطقة المحيطة بسور أوروك كانت فيها مستوطنات بشرية خلال فترات زمنية متعاقبة، التقييم الأولي للملاحظات التي سجّلناها وصور الأقمار الصناعية، يشير الى وجود مجرى مائي، ومن خلال الامتداد الطولي للقارب يمكن معرفة اتجاهه، ما يعزز اعتقادنا بوجود مستوطنات وبساتين على ضفتيه.”
نحن مغرمات بالوركاء
عالمات الآثار الخمس، اللاتي التقينا بهن، جمعهن العمل في معهد الآثار الألماني والإعجاب بحضارة وادي الرافدين. الدكتورة فان آس قالت “نحن مولعات بهذه الحضارة العريقة وهذه الطُرز العمرانيّة المتقدّمة.” طرزٌ قالت عنها الدكتورة ميسون عيسى، التي لها مساهمات معمارية مهمة، من بينها تطوير الأنموذج ثلاثي الأبعاد لسوق حلب المُدْرَج على لائحة التراث العالمي منذ العام 1986، “إنّها بالغة الفرادة.” ميسون استدركت “خذ مثلاً فترة القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وهي الفترة التي وصل فيها الكاشيون او الكاسيون (وهم أقوام سادوا على مساحة واسعة من بلاد ما بين النهرين وقلدوا فنونها ومبانيها وتماثيلها ومعابدها، وعدوا لغتهم الخاصة هي اللغة البابلية القديمة، وإليهم يعود معبد إنانا في أوروك أواسط القرن الخامس عشر ق. م.)، لقد أخذوا كثيراً من التقاليد العمرانيّة التي كانت موجودة قبل وصولهم.”
ووسط الهروب السريع للدقائق والساعات وانهماك الفريق بأعماله، كان لابد من مغادرة الموقع التاريخي المُشيّد على بحر من اللقى والمقتنيات والآثار المدفونة بانتظار التنقيب عنها، ودّعناهم على أمل العودة في مناسبات مقبلة، وكانت أخر الكلمات التي حملناها معنا للدكتورة مارغريت فان آس: “نتفهم دور الإعلام في إظهار أهميّة أوروك وآثارها وحضارتها، ونريد للعالم أن يعرف هذه الاهميّة ونتمنّى عليكم إيصال هذه المعلومة.”