عامر جليل إبراهيم – آية منصور – ميساء فاضل – تصوير: يوسف مهدي /
أكثر من أربعمئة كهف يعود تاريخها إلى ألف عام قبل الميلاد تشكلت في صحارى كربلاء وواحاتها، ومازال كثير من أسرارها غير مكتشف بعد. “مجلة الشبكة” تجولت في تلك الكهوف الغريبة التي اتخذها الإنسان القديم مأوى له حيث مارس فيها حياته وترك آثاره التي تحاول بعثات التنقيب الأجنبية والعراقية اكتشاف ألغازها.
شقت سيارتنا عباب الصحراء في رحلة مليئة بالمغامرة والدهشة قبل أن نصل إلى كهوف الطار التي تشكلت منذ آلاف السنين، ومثلت المأوى الأول للإنسان. مُنقبة الآثار (ولاء منعم جبار) التي رافقتنا في هذه الرحلة شرحت لنا كيفية نشأة هذه الكهوف، مؤكدة أن كل الدلائل تشير إلى أن الإنسان القديم في عصور ما قبل التاريخ بدأ بالسكنى في الكهوف المنحوتة طبيعياً في الجبال، فالكهوف مثلت المأوى الوحيد المعروف لذلك الإنسان الرافديني. وأوضحت أن الرسوم التي تركها الإنسان على جدران الكهوف تفصح عن كثير من أوجه حياته وتصرفاته، ومنها بدأت ابتكاراته واكتشافاته ومراحل تطور حياته عامة، فكانت الكهوف هي المرحلة البدائية للسكن في العراق الذي يعد أقدم البلدان التي تحضَّر فيها الإنسان وشق طريقه نحو التمدن.
الأقدم في التأريخ
تعد هذه الكهوف من أقدم الآثار التاريخية في المحافظة، وتقع على الطريق الذي يربط بين كربلاء وحصن الإخيضر، وتبعد عن مدينة كربلاء المقدسة نحو 30 كلم إلى الجنوب الغربي، يعود تاريخها إلى الألف الأول قبل الميلاد، ويبلغ عددها 400 كهف تقريباً.
عند وصول وفد المجلة إلى النقطة الأمنية المعنية بحماية الكهوف، تكفل الملازم (زين العابدين صالح)، آمر القوة التي تمسك الأرض هناك، بتذليل كثير من العقبات والصعوبات الأمنية، بل إنه وفر لنا عجلة عسكرية نقلتنا إلى الكهوف التي تشكل بعضها أماكن رخوة وخطرة وقابلة للانهيار بسبب عوامل التعرية في الصحراء.
وطورِ سينين..
تقع كهوف الطار في منطقة على يمين الطريق المؤدي من محافظة كربلاء إلى قضاء عين التمر وتطلق تسمية (الطار) على الأراضي المرتفعة عما يجاورها، وجاء ذكرها أيضاً في القرآن الكريم في الآية الثانية من سورة (التين): (والتين والزيتون وطور سينين) وفي اللغة فإن (الطور) تعني الجبل، ولأن هذه المنطقة معروفة سابقاً بأنها مناطق نهرية أو بحرية تشكل الفيضانات جزءاً من وجودها، فإن هناك دلائل على أنها كانت زاخرة بالحياة حيث نشأت المدن والأمصار بمحاذاة مجرى الأنهار.
بقايا الأقوام السحيقة
تؤكد المنقبة آلاء أنه بعد انحسار هذه الأنهر انتقلت هذه الأقوام إلى مواقع أخرى وتركت ما أنشأته في مواقعها السابقة، لذا تألفت هذه البقايا التاريخية لتكون شواهد على تلك الحقبة الزمنية في حينها، وتضيف: إن الكهوف تمتد بمحاذاة المنطقة المعروفة ببحر الملح وهي محاطة بوديان وواحات عدة ولعلها كانت محطة تجارية ونقطة مرور في العصور القديمة أو استخدمت كمأوى للإنسان في تلك الحقبة خوفاً من الوحوش الضارية.
أغراض دفاعية
يبلغ عدد الكهوف 400 كهف تقريباً، وتشير التنقيبات إلى أن كهوفاً صناعية نحتها الإنسان وحفرها في حدود سنة 1200ق.م ربما استخدمت لأغراض دفاعية أول الأمر ثم اتخذت قبوراً فيما بعد.
وتؤكد المنقبة أن الهيئة العامة للآثار والتراث أجرت الكشف على هذا الموقع عام 1955م وأعلنت عن أثريته في عام 1957م، وقد حصلت الموافقات الأصولية في الأعوام السابقة للتنقيب في الموقع وجاءت على إثرها البعثة اليابانية عام 1971م، واستُهل العمل في التل الذي تتكون تربته من طبقتين صلصاليتين.
وبحسب آلاء، فقد أسفرت التنقيبات عن اكتشاف مجموعتين من الغرف تختلف إحداهما عن الأخرى تقعان فوق المستوى وهما مقطوعتان اصطناعياً بطبقتي الصلصال، كما لوحظ وجود بقايا بناية مشيدة من الآجر مع بقايا حصن مربع صغير كان مشيداً بالآجر.
أوصاف الكهوف وخباياها
كشفت البعثة اليابانية حينها عن وجود غرفتين في الشمال الشرقي من الكهف، وظهر أن شكل الغرفة الأولى غير منتظم وأن أرضية المدخل تتصل من الجهة اليسرى بدكّة تتفرع إلى قسمين، كما عثرت في أرضية الدكّة على بقايا هياكل عظمية وقطع جلد، في حين كان مدخل الغرفة الثانية غير منتظم الشكل كذلك، وأمامه دكّة عريضة أيضاً والغرفة على هيئة دهليز، تضم في الجهة الخلفية نحتاً بدائياً على شكل رأس سهم، فضلاً عن مجموعة من الخرز وخاتم معدني مزدان بحرز وقرص ذهبي هلالي الشكل، وكانت أبرز المكتشفات فخاريات وأخشاباً وزجاجيات وبقايا نسيج وجلد جمال وبذوراً، ولعل هذه اللقى تعود للفترة الهلنستية.
استُعملت قبوراً
وتفيد آلاء منعم جبار بأن هذه الكهوف استُعملت قبوراً في الفترة ما بين القرن الثالث ق.م إلى القرن الثالث الميلادي، ويبدو أن الأنسجة التي اكتشفت تعود إلى الفترة أعلاه كما هو الحال في تدمر.
كما تكشف الكهوف عن أساليب عدة لحياكة الأنسجة، منها الحياكة البسيطة، المزدانة بالرسوم والصور والنسيج القطني المضلع، ذات الأعمدة، وبعضها ذات تزيينات ملونة منها ذات أمواج وذات أزهار وأشكال هندسية مع تدرج للألوان، وجميع هذه الرسومات تعطي تصوراً عن مقدار قِدم هذه الكهوف.
كما يعتقد أن هناك مناطق قد سكنت على نطاق واسع في العراق، وتحديداً منطقة الجزيرة الجنوبية الغربية (عين التمر والقصير) والأقاليم المحيطة بمنطقة كهوف الطار كالحضر والحيرة التي ربما كانت مصدراً للأنسجة المكتشفة في قبور كهوف الطار.
الصيانة والاهتمام
ودعت المنقبة آلاء في حديثها إلى الاهتمام بالكهوف، فهي مواقع أثرية مهمة يمكن لزوارها أن يندهشوا وهم يتخيلون حياة الإنسان القديم على هذه الأرض.
وحذرت من أن عوامل التعرية قد هدمت أجزاء كبيرة منها. في السياق ذاته لا تتوفر التخصيصات المالية الكافية لإجراء أعمال الصيانة، وهذا ما قد يحدث ضرراً بأجزاء مهمة قد تسبب انهيار الموقع أو اندثار أجزاء منه، ما يستلزم توفير تخصيصات مالية لتوثيق هذه المواقع الأثرية ورسمها باستخدام التقنيات الحديثة لتكون محفوظة بجميع أولياتها وتساعد في إعادة ترميمها.