آمنة عبد النبي /
يتلاعبُ دخان الكريستال بكيمياء أدمغتهم ويفصلهم عن الواقعِ بجرعة خادعة توهمهم بالنسيان وتجمل الشر في أذهانهم، ينتظمون في شبكات دعارةٍ سرية تصطاد ضحاياها من كافيهاتِ المراهقين والمراهقات، اللواتي ما إن يجري التأكد من حاجتهن الماسة لـ (شمة)، حتى تبدأ عملية مقايضتهن بالجنس مقابل المخدر، لتأتي بعدها خطة تجنيدهن لسحبِ ضحايا جدد ومن ثمّ بيعهن إلى أصحاب الملاهي، او جعلهن جواري تحت يد كبير العصابة.
ولهذا فإن دخول أحدهم إلى فخِ المخدرات وعالمها الضائع لن يخرج منه إلا مرمياً خلف قبضان السجنِ، او محمولاً على الأكتافِ الى المقبرة!
الجنس مقابل شمَة!
في ساعةٍ متأخرة من الليل استيقظ سكان منطقة الكرادة على صوتِ هرولة وإطلاقات نارية، فوجدوا أن قوة أمنيّة كبيرة تحاصر إحدى الشقق المشبوهة وتعتقل عصابة مُتخصصة باصطيادِ الفتيات وجذبهنّ من المقاهي والكافيهات والمسابح ومن ثم توريطهنّ بتجارة الكريستال والهيروين والدعارة.
يقول مدير مكتب مكافحة المخدرات في منطقة الكرادة عن تفاصيل تلك المهمة السريّة والمُباغتة:
“كنا في مهمة للبحث عن صاحب الشقة، وهو تاجر وقواد، ونجحنا في إلقاء القبض عليه وهو برفقةِ شابين وفتاةٍ (محششة)، كان يرأس عصابة تجارة مخدرات ورقيق، مهمتها الإيقاع بالفتيات الصغيرات اللواتي يعملن، او يرتدن المسابح والكافيهات واصطيادهنّ، في بداية الأمر بدوافعٍ جنسيةٍ تحت غطاء العلاقة الغرامية، ومن ثم يجري سحبهن وتوريطهن بإدمان الكريستال، ليصبح الأمر فيما بعد: الجنس مقابل حبّة كريستال. وبمرور الوقت تكون الضحية مُجبرة على سحبِ صديقاتها والقيام بمهمةِ الترويج للبضاعة المتنوعة، وحينما تصبح إحداهن عبئاً ثقيلاً ومملاً يتم التخلص منها عن طريق القواد ببيعها بسعرٍ بخسٍ لتُجار نخاسة متواجدين في النوادي الليلية والملاهي. والمُثير أن منظر الفتاة التي جري القبض عليها لم يكن يوحي بأنها ستعيش طويلاً، فقد كانت هزيلة الجسم، لا تقوى على الوقوف، بسبب تعاطيها لجرعةٍ كبيرة من المخدرات، فضلاً عن شحوبِ وجهها وغوران عينيها وشعورها الدائم بهلاوس سمعية وبصرية، والأفظع من ذلك كله أن تلك المراهقة كانت تحت تصرف صاحب الشقة جنسياً كثمنٍ لجرعاتٍ مجانيةٍ تحصل عليها والدتها، المُدمنة هي الأخرى.”
فضيحة وضربة موس..
تخيلوا، فوبيا “الطشّة” عند بعض شباب اليوم، الذين يعتقدون أنهم من خلالها يمكنهم الهرب من الخطيئة وتحريفها وشيطنة الطرف الأمني، كانت سبباً في الإيقاعِ بشبكة مخدرات وكشف ما كانوا يخفونه من فضائح.. نعم، هذا ما حدث حينما أُلقي القبض على تلك المجموعة “المحششة..”
الرائد عزيز ناصر، من مقرّ مكتب مكافحة المُخدرات في باب الشيخ، بحضورِ الشابين المُتهمين والفتاة المرافقة لهما، شرح بالتفصيل حيثيات عملية إلقاء القبض عليهم ضمن مفارز مشتركة في شارع فلسطين، قائلاً :
“لفتت انتباهنا عجلة مُسرعة يقودها شابان معهما فتاة نائمة في الخلف، فوجئنا أثناء توقيفهم لغرضِ التفتيش بريبةٍ ظاهرة على وضعيتهم، طلبنا إجازة السوق فاتضح أنها لشخصِ آخر، وهنا كان لابد من (تچييك) الأمر برمته، أنزلناهم من السيارة، وفي محاولة خبيثة لحرف الحقيقة حاول أحدهم فتح بث مباشر على وسائل التواصل الاجتماعي لغرضِ الاستنجاد بالمتابعين عبر قلب الحقيقة تماماً وشيطنة العنصر الأمني، لكننا سيطرنا ومنعناهم. وأثناء التفتيش سقط كيس حبوب الكريستال من رأسِ الشاب المُشتبه به، كان يخبئه تحت قبعتهِ، كذلك عثرنا على باجات مزورة وسلاح غير مُرخص، حاولت الفتاة إخفاءه تحت المقعد كي لا نراه، علماً بأن تلك الفتاة، التي كانت ضربات الشفرة تملأ ظاهر كفيها، اتضح أثناء التحقيق أنها تشكل عنصراً رئيساً مع الشابين، جرى خداعها وسحبها إلى فخ تعاطي وترويج المخدرات.”
سيجارة صاروخ خارقة!
التيه لا يعرف الجغرافيا، وضياع الإنسان لا يتحدد بوطن متطور وآخرٍ بديل وناءٍ، لأن رحلة المخدرات نحو الموت تلف دماغ متعاطيها أينما كان، والدليل أن أعداد المتعاطين تتزايد في دول أوروبا، التي يصنف الكثير من شعوبها على قوائم الأكثر رفاهية وترفاً، إلى درجة أن مملكة هولندا أجازت بيع الحشيشة رسمياً. يقول الشاب العراقي (موسى.ع) الذي لم يحالفه الحظ في الحصول على فرصة حق اللجوء في السويد.. فتحول الى مدمن:
“يبدو أن الأوهام لها ثمن باهظ لم أحسبه بدقة، لا أنكر أنني، كأي شاب مغترب، جاء إلى بلاد الأوروبيين وهو محمل بأفكار الترف الجاهز ونظريات الإنسانية والقيم الأوروبية التي ستضاف إلى عناويننا، لكنني صُدمت بواقعٍ مرير بعد ثلاث سنوات من الانتظار والرفض المتكرر، عشت في بدايتها متأملاً بشقراء وبجواز أوروبي وشقة وراتب، لكن الواقع الأوروبي كان مغايراً تماماً لما تصورناه ورسمناه في أحلامنا الشبابية، الإنسان هنا مجرد رقم، والحياة في أوروبا لا تنتظر أحداً، هذا الواقع الذي لم أستطع مواكبته ولم أتمكن بذات الوقت من الانفصال عنه إلا وأنا أدخن سيگارتي اليومية (الصاروخ)”، قالها وهو يخرجها من جيبه ويتهيأ لتدخينها.. وهنا توقفنا لبرهةٍ لأعرف محتواها بالضبط:
“نعم، يومياً أنا أدخن هذا الصاروخ مرتين، هو عبارة عن لفافة سيجارة طويلة من الورق الأبيض أعبئها بمادة حشيشة الماريوانا، بصراحة لا ارتياح ولا هدوء ولا قدرة على تقبل الفشل بالغربة بغير دخان ذلك الصاروخ المُنقذ، فلا أحد منا قادر على تجاوز صدمته الثقافية إلا بالصاروخ!..”
أما (عماد.ن)، الشاب العراقي الحاصل على الجنسية البلجيكية، الذي يعيش في أرقى ضواحي العاصمة بروكسل، ويفترض أنهُ لا يعاني من أي واقعٍ سلبي، وإنما هو انسان ناجح، وينتظر قدوم زوجته وأبنائه ضمن معاملة لم شمل، لكنهُ مع ذلك يختم يومه باستنشاق مُخدر البالون والمُعبأ بـ (أوكسيد النيتروز) مع صديقته الأوكرانية..
يقول عن إدمانهِ باسترخاء وارتياح:
“الراحة المُفرطة ربما، او الحرية غير المنضبطة، وجعل كل شيء في متناول يدِ الشاب هنا، أسباب لا يمكن استبعادها من فكرة التعلق الشديد بمخدر (البالون) قياساً بالحشيشة التي أتناولها مع دخان الأركيلة مرتين أو ثلاث في الاسبوع، لأني –بصراحة- اعتدت على أن افرغ عقلي وأسعد نفسي بجميع الملذات الجنسية والروحية، وتلك (البالونة) تساعدني كثيراً وتعطيني قدرة انتشاء وراحة كبيرة، فضلاً عن قدرتها على تحفيز الاندفاع والحافز الجنسي، أشعر بعد استنشاقها أن دماغي بخفة الريشة!”
كافيهات تحميها المافيات
رائد علي حسين، الشيف ومدير مطعم وكافيه (مارينو) في السويد، أثار من جهته نقطة حرجة:
“للأسف، الكافيهات، ولاسيما العربية، في دول أوروبا تحول الكثير منها إلى بؤر شيشة شبه علنية، ونراگيل مخلوطة بمنتجات الحشيشة، كالقنب والماريوانا، وبمرور الزمن صارت تلك الأماكن نقاط التقاء المافيات التي تسوق بضاعتها و(خاواتها) داخل تلك الأمكنة، والأمر هنا لا يخلو من تصفيات إجرامية تنفذها تلك المافيات، وتدرجها الصحف الأوروبية تحت عنوان (حوادث مجهولة)، وهو ما يُخشى منه في بلادنا، أنا شخصياً زُرت العراق قبل سنة ولاحظت الانتشار الهائل لعدد الكافيهات في مناطق بغداد والمحافظات، هذا الترفيه يثير الشك ويحتاج إلى تدقيق أمني ومراقبة من الأهل لأنها ببساطة تجمعات جاذبة ومربحة للمتربصين وتجار المخدرات والمسيئين كي لا يتطور الأمر مستقبلاً -لا سمح الله- إلى تصفيات ومافيات تتمدد وتنتشر مثل النار في الهشيم في ظل الفوضى.”
صراع من أجل البقاء
“علاج إدمان المخدرات لا يقتصر على سحب السموم، وإنما الأساس في التأهيل النفسي والنظرة الرحيمة لمصيبة المتعاطي كانسانٍ ضعيف”..
هكذا تحدثت عن تجربتها مع الإدمان الخفي وكيف تغلبت على شيطان المُخدر وانتصرت لإرادتها وحب الحياة السليمة، تقول نور (٢٣عاماً: (
“قصتي بدأت مع لعنة المخدرات بسبب علاقة عاطفية فاشلة، أحببت شاباً وخذلني بعد قصة حب عنيفة انتهت بسفرهِ خارج العراق، حاولت كثيراً التغلب على ما تركه في داخلي من ألم وعذاب وبكاء، تحولت حياتي إلى جحيم أسود ليل نهار، وهنا اقترحت علي صديقة سوء مقربة حلاً سحرياً يخلصني من كل هذا العذاب وأن بإمكانها جلبه لي من معارفها، ولاسيما انني من عائلة متمكنة مادياً، وفعلاً تعاطيت مادة مخدرة تدعى الكريستال، شعرت في المرات الأولى بانتشاء وخفة ونسيان فعلاً، لكن بعد ذلك تحولت حياتي إلى أسوأ ما يمكن أن يمر بإنسان، بقيت على هذا الحال لمدة سنتين فقدت خلالها وزني بشكل كبير، وتساقطت أسناني، وصار وجهي قبيحاً ومشوهاً، أعاني هلاوس سمعية وبصرية، أدركت أنني بهذا الحال المتردي الذي لا أستطيع الاعتراف به لأهلي ولا التخلص منه، أنني أتهدم شيئاً فشيئاً إلى درجة أنه لم يعد أمامي سوى الانتحار او الجنون او السجن، وهنا بالصدفة تعرفت على مختصة تُدعى (إيناس كريم)، التي هي ناشطة مدنية معروفة ومختصة في معالجة وتأهيل المدمنين من خلال منظمتها، ولها نشاط واضح على مواقع التواصل والإعلام للأخذ بأيدي المدمنين ومساعدتهم في دحر المخدرات ومقاومتها، لقد بذلت معي مجهوداً كبيراً كانت تحاول من خلاله إقناعي بالإيمان بقدرتي على الانتصار لنفسي واستعادة ما سلبه مني الإدمان، صرنا نلتقي كثيراً ونتواصل على تطبيقات الاتصال بشكلٍ دائم، الى أن اقنعتني بزيارة طبيب نفسي، وفعلاً تخلصت من الإدمان بمساعدتها وبمجهودها وإنسانيتها، وعدت إلى حياتي بعد معاناة كبيرة وبأفضل مما كنت.”
المخدرات والجريمة لا يفترقان
بعد الانتهاء من الاستماعِ –بهمة- إلى نور وقوة إرادتها، توقفنا للحديث المطول مع الناشطة المدنية إيناس كريم، مديرة منظمة “عراق.. خالٍ من المخدرات” المُختصة بتأهيل المدمنين ومساعدتهم على دحر المخدرات، تقول:
“المدمن ليس مجرماً ومنبوذاً، والإدمان ليس عاراً، المدمن قبل وقوعه في فخها يتصور أن المخدرات ستحل مشاكله وتنسيه، لكن الحقيقة أنها ستزيدها وتجعله يقظاً لأيام، لا يمكنه التراجع، وهي ذاتها الصعوبة التي يواجهها متعاطي المخدرات وقت التعافي، التي أساسها انسحابات الدماغ التي يشعر فيها أنه لا يوجد لديه أمل في الحياة، فتجعله ينتكس ويطلب المخدرات الى أن يأتي اليوم الذي يكتسب فيه دماغه لياقة قوية وأملاً بأنه يجب أن يتخطى أزمته ويبدأ حياةً جديدةً، إذن هو بحاجة دائماً لأشخاص يدعمونه ويشجعونه، وفيما يخص الرائج بين الشباب اليوم، فأبرزه وأخطره هو الكريستال، الذي تتمثل أضراره في التأثيرات المُباشرة على أعضاء الجسم، وكذلك كيمياء المخ، فهو يُسمى بالمخدر القاتل نظراً لأن إدمانه يكون بعد مرة أو مرتين من تعاطيه، لذلك نجد العلاقة بين المخدرات والجرائم قوية للغاية، فلا يتوقف تأثير تعاطي المخدرات السلبي على المتعاطي فقط، ولا على أسرته، وإنما على المجتمع ككل، والجرائم المرتبطة بتعاطي المخدرات جرائم في غاية البشاعة والشذوذ، فإذا كنت متعاطياً للمخدرات ولا ترغب في أن تصبح في يوم وليلة قاتلاً أو مجرماً أو مريضاً نفسياً، فابتعد عن المخدرات”.
جيل من الزومبي!
الكاتب الصحفي ثائر جياد الحسناوي كانت له حملات تثقيفية متواصلة عن مخاطر الكريستال -القاتل الخفي والإرهاب الناعم- كما يسميه، قائلاً بامتعاض:
“تحدثنا كثيراً وسنظل نثقف بشأن مخاطر الكريستال وما سيفعله بعد بضع سنوات، وكيف سيصحو المجتمع على جيل من (الزومبي) لا حل له نهائياً، هذه الخلطة الكيميائية المرعبة التي تحتوي في إحدى مكوناتها السبع على مواد تدخل في صناعة الأسمدة الكيميائية، تترسب في الدماغ قاطعة الطريق على المتعاطي إكمال حياته إنساناً سوياً، إنهم بيننا لكنهم لا يشبهوننا، الأفراد الذين تعرفهم إذا تعاطوا هذا المركب لن يعودوا كما تتصورهم مطلقاً، هم مشاريع جرائم وارتكاب فظائع لا يتخيلها بشر، لأنهم ببساطة ليسوا كما تتصورهم، ستختلف كيمياء أدمغتهم وسيتقدم الشر مع الحب مضروباً في الحزن والخوف، منقوعاً بالقلق والرهاب لينتج سلوكيات لا يمكن توقعها”.
التعاطي ليس جرماً
(إيڤا آرسون)، المُعالجة الاجتماعية السويدية التي تُشرف على فريق من المتعاطين، قيد التعافي حالياً، في ستوكهولم، تقول:
“العديد من المرضى يحتاجون إلى التحفيز الذاتي، لذلك نحنُ نؤهلهم في أماكن بعيدة تماماً عن بيئاتهم الملوثة، لأن المقومات العلاجية والأجواء التأهيلية التي يعيشون فيها ضرورية جداً، إذ أن المُتعاطي ليس مجرماً وإنما هو مريض بحاجة إلى المساعدة، ويجب حثه وتأهيله ليعود إنساناً سوياً، قبل أن يتطور الأمر ويتعقد، لأن غالبية مرتكبي الجرائم هم من متعاطي مخدرات من الدرجة الأولى، وممن يلجأون إلى تناول أكثر من مخدر في وقت واحد، بحيث يصبح التأثير على أدمغتهم إجرامياً، لذلك فإن الحصول على العلاج والتأهيل المجاني من الإدمان على المخدرات صار أكثر سهولة وتوفراً في السويد، ويبدأ من ثلاثة أشهر ولغاية سنتين ابتداءً من تاريخ تحديد الطبيب لنوع الرعاية اللازمة.”