برهان المفتي/
قبل سنوات، ناقش البرلمان الإيطالي قانون البيتزا، بإعتبار البيتزا منتوجاً وطنياً إيطالياً وإرثاً حضارياً لإيطاليا، وكان القانون يهدف إلى حماية هذا التراث الذي تحول إلى هوية إيطالية، بمعنى حماية الهوية الإيطالية من العبث والإضافات، وذلك بعد دخول مطاعم وجنسيات غير إيطالية في صناعة البيتزا، حتى ضاع الطعم الإيطالي من البيتزا.
وكانت بنود القانون مفصلة لحماية الهوية الإيطالية للبيتزا، حيث كان هناك بند لنصف قطر البيتزا الإيطالية، وإرتفاع العجينة، ونسبة الطحين، والمكونات الأخرى مثل الزيتون والريحان والجبنة الإيطالية والطماطم، وحدد القانون غرامات معينة لأي مطعم إيطالي لا يلتزم بتلك المواصفات، ولا أدري هل تم إمرار القانون أم لا.ولنا في العراق هوية مميزة، هي الصمون الحجري العراقي، المميز
شكلاً وتصميماً وطعماً وطريقة الخبز والعجن. وتاريخياً، لم ينل هذا المنتوج العراقي العظيم دراسة مفصلة، ولماذا هو منتوج عراقي خالص دون أن يخرج للبلدان المجاورة للعراق برغم فترات الغزو والإحتلالات، وحتى حين كان هناك عمال يعملون في العراق من جنسيات أخرى كالهنود والكوريين والفليبينيين والمصريين والمغاربة، إلا أنهم لم يقدروا على إستنساخ هذا المنتوج العراقي حين عادوا لديارهم، برغم أنهم قاموا بإستنساخ أطعمة معينة في مطاعمهم مثل الكباب والبرياني العراقي وحتى الدولمة التي أصبحت في مطاعمهم بتسمية أخرى هي المحاشي.
الصمون العراقي عراقي الهوية، ويشبه كل شيء في العراق، حتى إزدواجيته تشبه إزدواجية الشخصية العراقية، فهذا الصمون قاسٍ من الخارج، بسبب نار الفرن العالية، بينما ناعم من الداخل كالقطن، تماماً كالعراقي، بشخصيتين لا تعرف إحداهما دون أن تمرّ وتواجه الأخرى، والشخصية الثانية دائماً تكون صدمة والضد من الشخصية الظاهرة.
والهوية العراقية للصمون الحجري تأتي من أنه وليد النار، تماماً كالعراقي وليد نار الحروب، فتلك النار التي تخبز الصمون العراقي، هي النار نفسها في الحرب، تلك التي تخبز قلب العراقي طوعاً أو رغما حد الحريق على ساتر الموت، ذلك الذي لا يستر رصاصة تقنص الحياة، أو نار مدفع تحرق قلب أم ربما ذهبت لجلب الصمون من الفرن القريب للبيت، لأن أبنها سيأتي في إجازته الدورية هذا الصباح فتحضر له الصمون الحار مع القيمر، ذلك الذي لن يأتي أبداً بعد أن خطفته نار الحرب. ولأن قلب العراقي من تلك النار، فترى العراقي أكثر المحبين جنوناً وألذهم “عراقي هواي.. وفينا الهوى خبلُ” تماماً كلذة الصمون الحجري.
والصمون العراقي فيه مواصفات تصميمية رائعة لا تتوفر في أي صمون آخر أو خبر أو أي من المخبوزات الأخرى، وتلك المواصفات قد تعطي للصمون العراقي فرصة عالمية كمنتوج يغزو المطاعم العالمية. فشكل الصمون العراقي يتيح لمن يستخدمه في اللفة (أي الساندويتش) سهولة الحمل والسيطرة على لفتة وعلى مكونات اللفة بعكس الصمون المدور أو الصمون الفرنسي الأنبوبي الذي يسبب إحراجاً كبيراً لمن يستخدمه في اللفة (الساندويتش) خاصة في حفلة أو جلسة عائلية.
وداخل الصمون الحجري العراقي، له قابلية إمتصاص النكهات بصورة مدهشة، دون أن تتسرب السوائل أو زيوت المكونات إلى الخارج بسبب القشرة الخارجية القاسية للصمون، تلك الجهة التي تواجه نار الفرن العالية فتكون قاسية ومتماسكة تمنع مرور أي سائل أو زيت. أما طرفا الصمون الحجري، فيمنح لمن يتناوله متعة كبيرة جداَ بسبب إمتزاج الطبقات من القاسي والطراوة وإيضاً بسبب الشكل الذي يعيد لمن يأكله مرة لطفولته، ومرة لبدايات زواجه! أما لمن تتناول ذلك الطرف المدبب، فترجع مرة للطفولة، ومرة لمتعة الأمومة، ومرات للنظر في جمال صدرها. والطفل، متعته كبيرة وهو يمص طرف الصمون الحجري العراقي مستذكراً أياماً قبل الفطام.
لنجعل من هذا الصمون هويتنا العراقية، وبعد أن ضاعت الهوية الوطنية في زخمة ألوان متداخلة، وليكن هناك قانون الصمون الحجري العراقي. وبعد أن ضاع كل شيء بسبب الذوبان في الدخيل إلا أنّ هذا الصمون يتفق عليه الجميع في العراق، ويتفق الجميع كذلك بأن أصله غير معروف وتلك ميزة كبرى لدفع الخلافات بعيداً في إدعاء أصل هذا الصمون أو هويته الأثنية والقومية والجيوسياسية أو إلى أي فصيل ينتمي، أو لمن تكون حصة وزارة الصمون العراقي! فمجرد حضور هذا الصمون على أي مائدة يجعل الجميع في صمت لهيبة حضوره الرائع، ويسكت جدال الأفواه رغماً، ولا يجد شخص من هذا الفصيل، الطلب من شخص يعارضه في الفصيل المقابل، أن يناوله صحن الصمون الذي أمامه، فيفعل ذلك مبتسماً ناسياً خلافه الجدلي.. مع عبارة: تفضل آغاتي بالعافية.