كتابة ورسوم
فيصل لعيبي صاحي – لندن/
منذ أن انتبه الإنسان العاقل إلى محيطه، ارتبط وعيه بحاجاته المختلفة وإمكانية تطوير مهاراته، فرأس الرمح أو السهم الذي استوحاه، ربما، من أشكال أوراق الشجر، أو الذي صنعه من الحجر الصلب، فهو من خلال نحته وحكّه للحجارة، كان يخلق في الوقت نفسه شكلاً جميلاً كسلاح جديد، يدافع به عن نفسه ويصطاد به فريسته كذلك،لقد ارتبط الإبداع بالمعرفة والعلم والمهارة التقنية منذ البداية، واستمر إلى يومنا هذا. ألا تعتقدون اليوم أن شكل القنبلة الذريّة في تصميمها الحالي، رغم الرعب الذي تحمله في داخلها، هو شكل متناسق وجميل ومنسجم يسهل حركة انطلاقها نحو الأمام مثل حال السهم الأول؟
الفن مرتبط بحاجات البشرية قطعاً، وسيبقى ما بقي الإنسان على هذه المعمورة. لهذا يمكن أن يخدم مختلف قضاياه ومتطلباته وحاجاته المتنوعة.
اليوم، ونحن نمر بمرحلة صعبة وانتقالية، حيث القلق والتساؤلات الكثيرة حول الاتجاهات التي قد تتخذها البشرية، وسؤال المصير بعد التبدلات الكبرى وسقوط الكثير من الأفكار التي كانت قبل ذلك راسخة وغير قابلة للنقاش أو المراجعة، وانكشاف الكثير من خفايا المواقف المزيفة واللا إنسانية في المعتقدات التي كان ينظر لها كقيم عليا ومبادئ سامية، إلى جانب التقدم الهائل في المعرفة والعلوم والوعي، تجعل بعض وسائل التعبير البشري، ومنها الفنون، وكأنها تقف حائرة ومترددة أمام هذا التحول السريع والتبدل الخارق والمعاكس لكثير من قناعاتنا السابقة التي تطبّعنا عليها منذ قرون.
مفاهيم معادية للفن
الفن فقد مفهومه السابق، أو قل تحولت النظرة للفن عن النظرة السابقة، وظهرت وسائل تعبير بعيدة عن الوسائل التقليدية التي كانت تُستخدم، فالنحت لم يعد حجراً أو خشباً، ولا حتى برونزاً أو حديداً، بل ظهرت مواد لم يستخدمها الإنسان سابقاً، ودخل مفهوم الفنون الجميلة أيضاً في مأزق، فلم تعد الفنون جميلة كالسابق، ولا حتى ممتعة، بل ظهرت تعابير استفزازية، ومنها مفاهيم معادية للفن كما نعرفه، وجرى الاستغناء عن المواد التقليدية، واستخدمت حتى فضلات الإنسان نفسها كعمل فني أو كلوحة للتعبير عما يريد الإنسان قوله!
أما عن القضية الفلسطينية، فقد مرت هذه القضية بمراحل مختلفة جعلت المبدع والمثقف في حيرة من أمره، فالسلطة الفلسطينية اليوم تعترف بإسرائيل وتتعامل معها، وربما تأخذ منها مساعدات لتمشية أمورها، من يدري!!! وأصبح التطبيع شيئاً عادياً في الحياة السياسية العربية، وهناك دول عربية وإسلامية لها سفارات في إسرائيل. لكن الأمر المحيّر هو هل نحن أكثر فلسطينية من الفلسطينيين؟ أم أن السلطة الفلسطينية لا تمثلهم بشكل كامل ولا مرضٍ؟ لهذا نرى تضامننا مع القضية الفلسطينية موسمياً، وحسب مراحل نضال الشعب الفلسطيني وتطوره. والحقيقة أن القضايا المبدئية لا يمكن المساومة عليها. ولهذا فإن ظهور التضامن مع هذه القضية قد جاء من مواقف القيادات الفلسطينية منها. فحل الدولتين في رأيي حل غير عادل، لأنه يقر للمحتل بأحقية تملكه ثلاثة أرباع الأرض الفلسطينية، ويسمح له بتطبيع العلاقات مع الأنظمة العربية وليس الشعوب العربية، وهذا إشكال آخر لن يُحل إلا بخلق دولة ديمقراطية موحدة يعيش الفلسطينيون العرب واليهود الفلسطينيون فيها، ويحق ليهود العالم السكن فيها كذلك، أو زيارتها، ولكن ليس لمزاحمة السكان الأصليين كما يحدث الآن. فالتعبير عن هذه الإشكالية يضع المثقف المبدئي في حيرة، خوفاً من أن يتهم بكونه يقف ضد حل الدولتين، ومن جهة أخرى ضد توجه السلطة الفلسطينية وجماهير واسعة تمثلها، مكتوية بنار الاحتلال والهيمنة والتغطرس الصهيوني في بلادها. والفن عموماً يعبّر عن الظرف الذي ظهر فيه ويخضع للشروط التاريخية والإمكانيات المتوفرة والقدرات الإبداعية لهذا الفنان أو ذاك، ولهذه الفكرة أو تلك.
بعد طوفان الأقصى
واليوم.. وبعد طوفان الأقصى، عادت إلى الواجهة قضية الحقوق الفلسطينية المشروعة، وهب العالم كله للتفاعل معها سلباً وإيجاباً، وذلك بسبب ما حدث، لكن إذا ما خفتت المسألة مجدداً فستعود أيضاً مواضيع التضامن والمساندة الى وضعها السابق. فالمثقف، أو المبدع، يتأثر بما حوله وينتج ما ينتجه بناءً على ذلك، وهو ابن ظرفه وبيئته، وخاضع لشروط وجوده المادية والمعنوية.
أظن أن التضامن السريع، كردّ فعل مباشر لما يجري حولنا، قد لا يخلق أثراً فنيّا معتبراً إلا نادراً، مثل جورنيكا بيكاسو ونصب الثورة لجواد سليم. لكنه في الغالب يتطلب وقتاً وخبرة متراكمة، ففن الثورة الفرنسية، وأقصد هنا الحركة الرومانتيكية، لم تظهر مباشرة بعد الثورة وإنما بعد أكثر من نصف قرن على حدوثها.
لكن لو جمعنا ما أنتجه الفنانون في العالم عن القضية الفلسطينية، ولاسيما الفنانين العرب والفلسطينيين، فإننا نحتاج إلى متحف بحجم متحف اللوفر كي نضع هذه الأعمال الرائعة فيه. فالمبدع الإنساني النزعة لم يبخل في تضامنه مع كل قضية عادلة بغض النظر عن قوميته ودينه أو معتقده.