المبتغى الحسيني

جعفر الخزاعي/
تفسيرات عديدة للغاية الأولى من خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في المنظور الإسلامي، منها ما يتضمن معنى المعرفة، ومنها ما يتضمن معنى التكامل، ومنها ما يتضمن معنى آخر موازياً لهما، يرى المتفحص فيها أنها تتجه جميعها صوب معنى واحد وهو (التكامل) ((..لِيَبلُوَكُم أَيُّكُم أَحسَنُ عَمَلا..))،
إنه تكامل الإنسان على المستوى العقلي والعملي والروحي في مسيرة يتسامى فيها من الأرض إلى السماء ومن الجمود إلى المعنى، ومن النفس إلى الله سبحانه وتعالى -من عرف نفسه عرف ربه-.
إن الله سبحانه وتعالى هو الكريم الأول في هذا العالم، ومن سعة كرمه بخلقه أنه أبى إلا أن يفيض علينا من واسع مكنوناته على قدر سعينا نحو تحصيلها، فكلما جدّ الإنسان واجتهد تحصّل بقدره على ما يُفاض عليه من هذه المكنونات العظيمة. ولتقريب الفهم: أننا جميعنا نعلم أن العليم هو اسم من أسماء الله سبحانه، لكن الساعي في طلب العلم إنما هو من زاوية أخرى (ناهل) من نور هذا الاسم العظيم، فحينما ينتهل الإنسان العلم، فإنه من جهة أخرى يقترب خطوة إلى الأمام نحو الكمال الإلهي، فالتكامل بمعنى آخر هو الارتقاء عن طريق ممتد نحو الكمال، وكلما تقدم الإنسان فيه خطوة اقترب خطوة منه سبحانه وتعالى، يفاض عليه في كل خطوة من نور هذه الكمالات اللامتناهية.
ولهداية الناس وإرشادهم لتحقيق هذه الغاية الإلهية العظمى، بعث الله الأنبياء والرسل، ابتداءً من آدم (ع) وصولاً إلى النبي الأكرم محمد (ص)، حتى وصل الأمر إلى الإمام الحسين (ع)، الذي يعد امتداداً لما جاء به جده من تعاليم إلهية أُريد لها الارتقاء بالإنسان وسموه ونيله المراتب العالية في الدنيا والآخرة.
لكن ما حدث في عصر الإمام الحسين (ع) هو تولي يزيد بن معاوية مقاليد أمور المسلمين، المعروف بالطيش والاستهتار والعربدة، ومحاولاته الحثيثة لإماتة كل ما جاء به الدين الإلهي من قيم دينية وأخلاقية وإنسانية، ما دفع الإمام الحسين (ع) إلى القيام بثورة إصلاحية إحيائية لكل القيم التي كادت أن تموت في ذلك العصر، فرفع شعاره الإصلاحي الشهير (ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي)، بذل فيها الغالي والنفيس مضحياً بكل ما يملكه في سبيل الله، تضحية بدأها بنفسه وأصحابه وإخوته، إلى أهل بيته وأبنائه ورضيعه.
لذا فإن البكاء على الحسين (ع) واستذكار القيم النبيلة وإقامة الشعائر في كل عام ما هي إلا وسائل استعادية للقيم الإلهية التي خرج من أجلها الإمام الحسين (ع)، لا غاية رئيسة، لأن الغاية واحدة، وهي نفسها التي بعث الله الأنبياء (ع) من أجلها، التي تحدثنا عنها في بداية المقال.
وما نود الإشارة إليه أن الممارسات الاستذكارية للإمام الحسين (ع) ينبغي أن تكون امتداداً للأهداف نفسها التي خرج من أجلها، التي تسهم في بناء الإنسان وتقدمه، حين يكون الإصلاح الاجتماعي والتكامل الإنساني هما محوري هذه الممارسات ونواتهما كي تؤتي هذه الشجرة أكلها.
وها هي صور العطاء والبذل والإيثار والكرم والتفاني، التي نراها كل عام في زيارة الأربعين، التي تعد المثال الحي للأخلاق الحسينية والتربية المحمدية التي تتجسد في محبي الإمام (ع)؛ فيصبح الطريق المؤدي إلى كربلاء مائدة ممتدة تجود بمختلف العطاءات، تبدأ بمحطات الاستراحة التي يتوفر فيها ما لذ وطاب من المأكل والمشرب، إلى محطات العلم التي تتوفر فيها مختلف النشاطات الدينية والقرآنية والتعليمية، التي تقدم كلها بشكل مجاني.