الملابس وتصاميمها في حضارات وادي الرافدين الزي الإيزيدي أنموذجاً

ريا عاصي/
هو أحد أقدم الاختراعات التي ابتكرها الإنسان وطورها حسب بيئته واحتياجاته. حين نغوص في التاريخ لنتعرف على أول الاختراعات والاكتشافات، فإن الأدلة ستقودنا حتماً إلى أرض الحرف الأول والعجلة وطرق الري والزراعة، ستقودنا إلى وادي الرافدين. فإنسان وادي الرافدين بعد أن كان يلتحف بجلود الحيوانات لتقيه برد الشتاء، لف الجلود على شكل شرائط حول جسده، وكان الرجال السومريون أول من ارتدوها على شكل نصف تنورة، بينما ارتدتها المرأة على شكل فستان بكتف واحدة. وحين اكتشف بعدها المغزل جرى غزل أول الخيوط التي تلاها النول لينتج أول قطعة نسيج، التي ارتديت شداً عند الكتف والخاصرة، وكان ذلك ظاهراً جداً في الزيين البابلي والآشوري، لتطل علينا بعد حين من مملكة الشمس، الحضر، التي اكتشف الإنسان داخلها طرق صناعة القالب الأول للملابس بالإبرة والخيط لخياطتها، وحينها تشكل أول بنطال ارتداه الملك سنطروق، وزينت زوجته أكتافها بحفرة عند الذراعين ليتشكل (ردن) الثوب الأول. وبذلك عاد العراق ليصدر فكرة الزي والفصال والبنطال إلى العالم.

طقوس قديمة
تحرص الإيزيديات على ارتداء الزي التقليدي حين دخولهن للتعبد داخل معابدهم كل أربعاء، إذ يتبع الإيزيديون واحدة من أقدم الديانات في بلاد مابين النهرين، وكان يوم الأربعاء هو اليوم المقدس لهم ولكل الشعوب التي سكنت وادي الرافدين قديماً، ومنها نكتشف أن الإيزيديين أسهموا في نقل واستمرار أحد أهم الطقوس عن طريق المشي إلى المعبد وهم يرتدون أنظف الملابس وأجملها، والتبرك بالماء الصافي وتعميد الأبناء ومشاركة الأطعمة.
إن الزي التقليدي لأية مجموعة ثقافية، أو عرقية، عادة ما يتطور على مدى قرون، من خلال التفاعل بين العوامل البيئية والاجتماعية والثقافية والدينية. وبالتالي، فإن من الصعب أن ننسب (اختراع) زي معين إلى شخص أو جهة محددة. بدلاً من ذلك، يمكن القول إن الأزياء التقليدية تتشكل تدريجياً من خلال تجارب وتقاليد المجتمعات التي ترتديها.

إرث حضاري
ينتشر الإيزيديون في شمال العراق عند سهل نينوى وفي قرى تابعة لكردستان ويتحدثون باللغة (البادينانية) بعد أن اندثرت لغتهم الإيزيدية، في حين يتحدث سكان مدينة بعشيقة اللغة العربية. وزيهم كلغتهم يختلف باختلاف المناطق، فنرى الرجال في قرى دهوك يرتدون الشروال والصديري ويلبسون غطاء للرأس على شكل مخروطي يصنع من صوف الإبل، بينما يرتدي رجال مناطق سهل نينوى دشداشة طويلة بيضاء وتحتها سروال أبيض ويضعون (اليشماغ) الأحمر على رؤوسهم.
أما السيدات والفتيات في سهل نينوى فإنهن يرتدين الملابس البيض، ثوب طويل، ويتحزمون بخيوط حمر، والعروس عندهم تتحزم بيشماغ أحمر عند الخصر، ويرتدون غطاء رأس أبيض تعلوه قبعة من الليرات الفضية والذهبية تربط بسلسلة من الليرات والأكسسوارات الذهبية والفضية، أما النساء الكبيرات فيرتدين عمامة بيضاء، وفي قرى دهوك تتداخل الألوان في أزيائهن. كما أن الإيزيديين بشتركون كباقي مكونات سهل نينوى بارتدائهم وشاحاً يربط على أحد الأكتاف، يكون تطريزه برموز وأشكال عدة (هذا الوشاح تشترك فيه النسوة من الآشوريات والسريان والكلدان والكرد، ولكل طائفة منهن رموز محددة تطرز عليه). جدير بالذكر أن هذا الوشاح كانت ترتديه النساء في وادي الرافدين، من هنا نثبت أن الزي التقليدي هو إرث حضاري له قيمة معنويه كبيرة، إذ أنه ينقل القصص والتاريخ عبر الزمن.

رأسمال اقتصادي
حاول مفكرو العالم الغربي الذين صدروا ثقافاتهم إلى العالم أن يعزلوا الحِرَف عن الفنون، وبذلك جعلوا من صناعة الأزياء والعاملين فيها حرفيين وفنانين من الدرجة الثانية. أما في العصر الحديث، وبعد الحرب العالمية الثانية، فقد حاول مصممو الأزياء في فرنسا وإيطاليا إنشاء جمعيات تدعم صناعة الزي وخلق الموضة، وبذلك تشكلت دور أزياء كبيرة أسهمت في رفع غمة الحرب عن أوربا، لتطل علينا عروض أزياء وبيوتات شهيرة غزت أسواق العالم بأزياء حديثة.
يقول الفيلسوف النرويجي (لارس سفيندسن)، وهو مهتم بالفلسفة وله عدة مؤلفات، مثل (فلسفة الملل) و(فلسفة الخوف)، وصدر له كتاب ترجم إلى العربية باسم (فلسفة الموضة) عام 2006: إن “الموضة بالفعل مرتبطة بالهوية والأحداث التاريخية والبنى الاجتماعية، ورأس المال الرمزي والثقافي، ويليه الاقتصادي.”

كتبت الناشطة الإيزيدية (رفاه حسن) عبر مواقع التواصل الاجتماعي هذا المنشور الذي دعت فيه إلى المحافظة على الزي الإيزيدي من الاندثار والمساهمة في صنع متحف يضم أنواع الزي وكيفية صناعته:
“يمثل الزي الإيزيدي جزءاً من هوية الإيزيديين، ويميزهم بين المجتمعات والمحافل الثقافية والمهرجانات، ونحن نجد اليوم أن بعضهم قد تخلى عن هذا الزي، وخصوصاً النساء، وتركوا القمصان الطويلة او الغترة البيضاء. حتى أن بعضهم وخلال ذهابهم إلى المراقد الدينية، نجدهم يأتون بملابس البيت والنوم، وهي ملابس غير لائقة للمكان وحرمته. الزي الإيزيدي من أقدم الأزياء في العالم، وهو زي مميز، جميل ونادر وغال. لذلك علينا إقامة دورات لصناعة الأزياء القديمة والحفاظ عليها من الاندثار، وتأسيس متاحف في كل منطقة إيزيدية لجمع هذه الأزياء، التي تعد رمزاً ثقافياً واجتماعياً وتاريخياً يبقى لكل الأجيال.”