قاسم عوني /
يعتبر (الملّا والملّاية) من الرواد الذين كافحوا الأمية بأشكالها في بغداد وبقية المدن العراقية المختلفة وكذلك المناطق التركمانية منها, حيث علّموا أبناء ونساء تلك المدن الحروف العربية وكيفية ترديدها بإمعان وذلك عن طريق تعليمهم طرق تلاوة القرآن الكريم سواء التجويد أو الترتيل, إذ منها بدأت حركة التعليم الأولى من تلك المرحلة والتي تضمنت مبادئ القراءة والكتابة والعمليات الأربع من الحساب وهي الجمع والطرح والضرب والقسمة بالإضافة إلى معارف العلوم الأخرى رغم بدائيات التعليم.
حلقات دراسية
يقول ملّا بكتاش ولي إسماعيل البياتي (81 عاماً) وهو من أهالي قرية (جرداغلي) التركمانية التابعة لقضاء طوز خورماتو, والحديث هذا كان قبل وفاته (رحمه الله) في حوار كنت قد أجريته معه, إنه كان من المنتمين الى تلك الحلقات الدراسية في بادئ الأمر, إذ تتلمذ على يد الملا الراحل ميرزا الى جانب عدد آخر من أبناء القرى المجاورة كقريتي “براوجلي وشاه سيوان” أمثال المرحوم أبو القيس رضا كهية الذي كان يعد من وجهات عشيرة البيات وملا عصّاف محمد علي، أفضل من أجاد البحث في التأريخ وعلومه بالإضافة إلى ملا جعفر وآخرين قد أنزوت أسماؤهم جانباً في مساحة ذاكرته, مؤكداً أن والده الراحل كان يجبره آنذاك على التعلم وولوج هذا العالم الدراسي الذي يعد من أساسيات تعلم الحروف الأبجدية وكيفية إتقانها بالشكل الأمثل لكي أتجاوز بها عراقيل الحياة على أقل تقدير ولإبراز شخصيتي في المجالس.
قاعدة الهرم
يضيف الحاج بكتاش (رحمه الله)، من خلال هذا الحوار الذي أفرد له جزءاً من وقته رغم ماكان يعانيه من مرض عضال ألمّ به قبل رحيله، بأنه قبل أن تتشكل وزارة التربية في العراق وتنتشر المدارس الحكومية آنذاك كانت هناك بعض المدارس الأهلية، إن صح القول، أخذت على عاتقها تعليم القرآن الكريم والدين ومبادئ القراءة والكتابة والخط والحساب, هذه العناوين التعليمية البسيطة والمتكونة من بيت طيني صغير يشرف عليها شخص يسمى (الملّا) يساعده عند الحاجة أحياناً في إدارة الدروس الدينية والحسابية معلمون أو غيرهم ممن استوعبوا توجيهاته, يأخذون على عاتقهم كتابة مايطلبه منهم (الملّا), مبيناً أن المدارس الدينية آنذاك هي القاعدة الأساسية والمهمة لما نلحظه اليوم في الواقع التعليمي والتربوي والعلمي.
تعليم لايخلو من العقاب!
وفي معرض حديثه، أوجز الراحل بكتاش البياتي بعض الأساليب التي كانت سائدة حينها في تعليمهم لأبناء القرى من الطبقات الفقيرة وكذلك الميسورين منهم, وهو أن التعليم لم يكن يخلو من العقاب وكذلك الاستخدام المفرط لوسائل التأديب واحترام الوقت، والتي تتلخص بـ (الفلقة) والضرب بالعصي على الأرجل والجلوس في الشمس وغيرها من وسائل العقاب الموجعة, إذ يؤكد (رحمه الله) أن من عوامل الصبر والتحمل التي سايرت واقعهم آنذاك هو بعد المكان الذي كان يفصل بين المنزل والقرية التي يتواجد فيها (الملا) والذي كان يتجاوز أكثر من 7 كيلو مترات سيراً على الأقدام تلفحهم خلاله أشعة الشمس الحارة صيفاً وتخترق أجسادهم المنهكة والمتعبة برودة الشتاء.
متمّمات الدراسة
فيما بين “أوجاغ عسكر”، أحد الشخصيات الدينية التي كانت على تماس مع المدرسة آنذاك، بالقول: المدرسة هي عبارة عن منزل صغير قديم يملكه (الملا) أو يستأجره بأبخس الأثمان, ويجهزه بأنواع بدائية من الأثاث واللوازم كالحصران للجلوس عليها و (الحِب)، بكسر الحاء، لمياه الشرب وبعض الألواح الخشبية السوداء للكتابة عليها وبعض الأثاث البسيط ككرسي الملا مثلاً, وكان الناس يأتون بأولادهم الى تلك المدارس فيتساومون مع الملّا عن نوعية الأجور فمنهم من يدفع مبلغاً شهرياً عن ابنه, ومنهم من يتفق معه على أجر مقطوع ونهائي يدفع له بعد أن يتم ختم القرآن.
رسالة تعليمية
وأضاف أوجاغ عسكر(رحمه الله) أن الملا كان يقوم بتعليم البنين, والملّاية من جانبها بتعليم البنات, وكانت هذه الدروس تمتد لأكثر من ساعتين أو ثلاث لأن الملا كان يتفقد في اليوم الواحد أكثر من قريتين لأداء رسالته التعليمية عند صعوبة مجيء الطلبة إليه, واستطاع تثبيت ركائز التعليم البدائي والقضاء على محو الأمية الذي كان سائداً بشكل كبير، ولو بالمتيسر ، مؤكداً أن أسلوب العلم في ذلك الوقت قد أخذ بالزوال شيئاً فشيئاً ومن ثم الانقراض بعد انتشار المدارس ودور العلم, مترحماً على أولئك المثابرين الأوائل والحريصين على أداء رسالتهم التعليمية والتربوية، الذين كان لهم الفضل الأول في أن نبصر نور العلم من خلال الحرف العربي، وألف تحية للذين واصلوا المسيرة من بعدهم من الأجيال اللاحقة, هذه كانت آخر تدويناته الكتابية قبيل وفاته (رحمه الله).
هدايا المناسبات
بالإضافة الى ماتم ذكره، فقد أشار المرحوم أوجاغ عسكر الى المبالغ التي كان يتقاضاها (الملّا) من طلابه والتي كانت تختلف من مناسبة لأخرى منها: الخميسية، وهو مبلغ يدفع كل يوم خميس, والعيدية وهي مبلغ يقدم في الأعياد, والنافلة وهي صدقة تدفع في المناسبات الدينية, والفطرة وهي صدقة رمضان, والختمة وهي الهدايا التي تقدم بعد ختم الطالب للقرآن وغيرها كأجور المياه والإعانات الطارئة.