بغداد – ملاذ الأمين/
بينما تحافظ الدول على تراثها، فإن تراث بغداد يكاد ينتهي بشكل تراجيدي، إذ تتواصل عمليات هدم البيوت التراثية، مولدة المرارة بين أهالي بغداد، والمهتمين بالتراث بشكل خاص، على ضياع تاريخ كبير لبغداد.
في تأكيد على الأهمية التي توليها دول العالم لتراثها، عملت روسيا على نقل مبنى تاريخي في مدينة سانت بطرسبرغ مسافة 52 متراً لأول مرة في التاريخ، من أجل مشروع بناء جديد، إذ جرى نقل المبنى التاريخي على القضبان الى دار الأيتام الإمبراطوري، وهو مكون من طابقين ويزن 3200 طن إلى مسافة 52 متراً بالقرب من جسر فيبورغ. وللقيام بذلك، جرى تعزيز الواجهة الخارجية بقضبان معدنية وتركيب لوحين من الخرسانة المسلحة في الطابق السفلي، بحيث ركب الهيكل على نظام الأسطوانة، ليمكن نقله من مكان إلى آخر.
في حين نجد أن الجهات الحكومية لا تبدي أي اهتمام بتراث بغداد العريق، ولاسيما البيوت الرائعة التي شيدت خلال عقد الثلاثينيات، وتحديداً بداية ظهور بيوت سكنية و”فيلات” ذات أشكال تصميمية مختلفة تماماً عما كان مألوفاً عن عمارة البيت السكني البغدادي التقليدي المختلف في أسلوب تنظيم الفضاءات وتوزيعها في تلك المساكن، على وفق أساليب التركيبة جديدة، مع استخدام أنواع كانت غير معروفة آنذاك من المواد الإنشائية.
دار مميزة
تتميز دار الفريق الركن (ياسين الهاشمي- رئيس وزراء في العهد الملكي)، المشيّدة في النصف الثاني من عقد الثلاثينيات في محلة الوزيرية، بمقاربتها التصميمية الفريدة في أهميتها المعمارية، فضلاً عن قيمتها التوثيقية كمثال حي ونادر على فترة مهمة مرت على العاصمة، وعلى البلاد ككل؛ ما جعل منها مستنداً وثائقياً لذاكرة بغداد المعمارية، وشهادة واضحة وأمينة. ويرجح أن يكون المعمار (هارولد كلايفورث ميسون 1892 -1960″، هو من صمم بناء تلك الدار.
تسعة عقود
وعلى امتداد تاريخها الطويل الذي يزيد على تسعة عقود، ظلت دار ياسين الهاشمي مميزة، وقيمة جمالية راقية بشكلها وكتلها المنحوتة فوق الشبابيك والأبواب، فهي تعد وثيقة معمارية ومستنداً مادياً لذاكرة بغداد المعمارية في تلك الفترة، إذ إنها بعد أن كانت داراً سكنية، تحولت الى مبنى لسفارة الاتحاد السوفياتي في بغداد عام 1940، وبعدها اتخذتها اليابان سفارة لها عام 1952، ثم تحولت الى مدرسة ابتدائية عام 1969، وكمقر لنوادٍ اجتماعية عديدة بدءاً من عام 1981، لحين استخدامها كمقر لجمعية المصورين الفوتوغرافيين في الفترة الأخيرة. وبقيت الدار محافظة على شكلها الفريد، محتفظة بعمارتها الاستثنائية وتفاصيلها المتقنة العديدة. لكن مصيرها التعس تحدد سنة 2017، عندما جرى هدمها بالكامل، وقلعها من أساسها، ليصبح موقعها مجرد (موقف للسيارات)..!
طمعاً بالنقود
وحين سألت صاحب ساحة موقف السيارات عن سبب هدمها، أخبرني أنه اشتراها مهدمة، وأن الورثة اتفقوا على بيعها، وأن الذي اشتراها لم يكن لديه المال الكافي ليجعلها عمارة متعددة الطوابق، فاكتفى بتحويلها الى موقف للسيارات لحين بنائها عمارة تجارية.
مرافق تراثية
أما السيدة (هيام أحمد) – مدرسة لغة إنكليزية- فقد دعت وزارة الثقافة “لإجراء مسح على الدور التراثية، وأن تستملكها وتجعلها مزارات ومرافق ثقافية لاستقبال المثقفين، وإحياء الأمسيات الثقافية والندوات العلمية والمعارض الفنية.” مبينة أن “هذا الأمر معمول به في الدول المتقدمة والنامية، إذ إن مصر تحافظ على دور المطربين والفنانين والملحنين والسياسيين، وكذلك الهند وتركيا وعدد من دول المغرب العربي، لأن الموقع التراثي يعد معلماً ثقافياً مهماً ومصدراً لتحقيق واردات مالية جيدة للبلاد.”
وأضافت أن “دار رئيس الوزراء ياسين الهاشمي معلم مهم في منطقة الوزيرية، فهي دار تراثية تحتوي على حديقة كبيرة فيها أشجار مثمرة، وبناء واسع يتكون من باحة كبيرة وست غرف نوم، بالإضافة الى المطبخ وغرفة المعيشة، فيما يحتوي الطابق الثاني على ست غرف نوم وصالة وسطح، كما أن معظم جدرانها مزينة بزخارف نباتية جميلة، اما الشبابيك فهي خشبية عالية محمية بقضبان من الحديد، كانت تسهم بتنظيم التهوية من جميع جهات الدار في أيام الصيف القائظ.”
قانون البلدبات
الأستاذ (خالد السلطاني)، المهتم بالتراث، قال إن “الحماسة في تحديث المؤسسات الحكومية، في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، أدت إلى (حمّى) تشييد مبانٍ عديدة ومختلفة لكي يمكن استيعاب المتطلبات الوظيفية الجديدة لتلك المؤسسات، الأمر الذي ملأ وأثرى المشهد المديني بصروح لتكوينات بنائية لم تكن مألوفة أو معروفة مسبقاً، وترادفت تلك الحركة من البناء الكثيف مع نزعة ظهور طبقة جديدة من أرباب العمل، تلك هي طبقة المثقفين الوسطى (الإنتلجينسيا). لقد ارتضت هذه الطبقة أن تكون لها مساكن جديدة لا تقل شأناً عن حداثة المباني الحكومية ذاتها، كما أنها أحست سريعاً بعدم استجابة بيوت الآباء والأجداد التقليدية للإيفاء بالمتطلبات المستحدثة في حياتهم ومراكزهم الجديدة. كما أن هاجس التغيير والتجديد الذي امتلك الشعور العام وقتذاك أسهم في جعل حركة البناء السكني تظهر وكأنها واحدة من أكثر الفعاليات المعمارية انتشاراً وتأثيراً في ذلك النشاط.”
جدير بالذكر أن “مجلة الشبكة” لم تحصل على رد من دائرة الآثار والتراث في وزارة الثقافة والسياحة بشأن هذا الموضوع.. رغم محاولاتها المتعددة.