آمنة المحمداوي/
بمَ أعوضك يا آه زينب الحايلة في دمع لا تتقن لوعته حتى الملائكة، قطعاً لا معنى لسؤالي أمام ما قالته المنكوبة ننسن أم گلگامش في اللوح السادس من الملحمة: “سأقضي بالبكاء والنواح عليك يا گلگامش، سنة بعد سنة..”
لذلك كانت حبَّوبتي “تدبارة” أو رفعة، طيبة تُشبه شم المسچ ورويحة حلَال مثلَ خضرمةٍ فَيروزيَّة مُذهَّبة، لا تعرفُ القراءة والكتابة، لكنها تهيّس القرآن والعباس معاً، وتُجيد صلابة الإبقاء على الوجعِ خالداً كحروف المسمار لدرجةٍ أنه كلما حلّ عاشوراء تَلف شيلتها البريسم المُطيّنة كأيّةِ جنوبيةٍ دَسِمة اللَّوعة مثل جِدْر الحسين، وفي ساعةِ الغروب ترسمُ بمَجسّاتها النقيّة داخل المُخيلة “چادر” مواساةٍ غريبٍ وبعيد عن عويلِ الناسِ ونواحهم..
چادر تنصبه على “تلّ زينب” الغريبة، تلم بداخله السّمران المُتعبين من كلِ فجٍ وضَيْمِ أبناء القهر الفائض والآه المجانيّة تلو آه وآه، تُلاجي وليداتها العتّاگة الأحرار أبناء التفّاگَة، الباشوات بقمصان البالة، المحسودين بالحسين وعباسه، لا بسياراتهم المصفحة ولا بوجناتهم المتفحة، المحرومين من كلّ شيء إلا حرْز أبي فاضل لتُقيم فيه مأتمها وتستقبل مُعَزيات مولاتها المنكوبة وتندبُ سبّاحة الـقلب بـ ..آه يا زينب..
ميثولوجيا الحزن النبيل
أجزم أن ميثولوجيا “تدبارة” كانت تسمعُ صهيل الميمون العائد بلا فارسه وكأنه يخصها وحدها بالعويل فتجلس في أعلى التل الزينبي وتضع رأسها بين قدميها ناحبة، ليس لأن من صاغوا سبيكته الدمعية قديسون في صنع الحزن النبيل، وإنما لأن دموعك يا زينبنا كانت هنا دسمة الفقد وتشبه ماء الطاسة التي تنثرها أمهاتنا ونحن في الطريق إلى ما لا ندريه، نحن أبناء القهر والفجائع المجانية على طول الزمانِ والمكان الممتد بشجنه من أرواحنا الى تل الزينبية، أو التل الزينبي، ذلك المكان القريب من العتبة الحسينية، بقعة الفجيعة الشاخصة بذاكرة الأجيال، حيث كان يشرف من عليائه الدامية على معركة كربلاء يوم المنازلة الأخيرة في عاشوراء، حينما توجهت إليه جبل الصبر زينب راكضة، ومن ثم نادت على إخوتها واحداً تلو الآخر. هو عبارة عن مرتفع أرضي بتلة صغيرة يبلغ ارتفاعها خمسة أمتار عن أرض الحرم الحسيني، وعلى بعد عشرين متراً من الحرم وخمسة وثلاثين متراً من تراجيديا المعركة.
هذا التل الناحب كان يشرف على مصارع الشهداء في حادثة الطف، حيث كانت زينب تتفقد حال أخيها الحسين منه وتراقب الملحمة، لذا عرف هذا المكان الذي كان قرب المقتل بتل الزينبيّة.
سيميائية الطف الباسل
لك وحدكِ الحق يا زينب في أن تبكي وتبكين علينا بمهارة العارفين وصدقهم حينما يبوحون بالأوجاع المضمرة، لأنكِ أولاً وأخيراً المأوى والتل السماوي الذي تنزح إليه أرواحنا هرباً من بلادٍ اكتفت بأن تكون مكاناً مترباً لنموت فيه، مع أنني أعرف أن الحزن سيّد ثقيل عليكِ، وما صبرك إلا احتيال عليه، لأن الفقد بحاجة الى زمنٍ حادٍ وذاكرة تصنعها الأسئلة الكبرى بمواجهة راديكالية أبدية مع امرأة نجزم أنها أصل الوجود وكعبة صبره حينما وقفت وحيدة على التل مثل علامة شاخصة ودلالةٍ فذة في طف كربلاء وسيميائية العاشر، لذلك سُمي هذا الموضع الباسل رغم أنف الطغيان باسمها.
رمزية خطاب السماء
كانت مؤمنة تماماً بأن النفع الوحيد الذي بقي لنا في الحياةِ هو البكاء، نحن أبناء القهر والممسوسين به، لم يرفق بنا حتى الموت الذي اعتاد خدش خدود أحبتنا الخدَّج وخمشها بلا رحمةٍ، لذلك كنت أجد صعوبةً في التفريقِ ما بين ونّة حبَّوبتي تدبارة وآه العقيلة القادمة من التل وهي تشاهد قرّة عينها الحسين (ع) محاطاً بالسيوف والحتوف يخوض المعركة المصيرية ببسالة جده، وفي رواية أنها خرجت ساعة وقوع الحسين (ع) من على ظهر جواده لتخاطب السماء، ثم توجهت بنظرها صوب المدينة المنورة، تخاطب جدها (ص) وتخبره بما فعل شذاذ القوم وأراذلهم حتى نادت: واجداه وامحمداه! هذا حسين في العراء قتيل في كربلاء، وبعدها صوبت نظرها نحو الغري منادية يا أبتاه يا علياه! اللهم خُذ حتى ترضى.