المثنى – يوسف جابر/
نعم.. قالها صاحب الكوميديا الإلهية وكررها بعده مارتن لوثر كينغ: “إن أحلك الأماكن في الجحيم هي لأولئك الذين يحافظون على حيادهم في الأزمات الأخلاقية.” إن الوقوف على التل المحايد والاكتفاء بالمراقبة في وقت المعارك الأخلاقية يعد انحيازاً وميلاً صوب الباطل، الحياد إعلان للهزيمة المهنية وانقياد غير مبرر.
الحرب على غزة، الحدث الذي شغل العالم وشغل وسائل الإعلام ومنصات التواصل، فيما التغطيات الإعلامية والصحفية انقسمت إلى ثلاثة اتجاهات: طابور بحث عن مراده، وآخر حافظ على حياده، وثالث تمسّك بانقياده. إلى وقت قريب ادعت مؤسسات صحفية وجرائد عتيدة ومحطات تلفزة بقاء الجدار الفاصل بين غرفة الأخبار وغرفة رئيس مجلس الإدارة، فالصحفيون ومحررو الأخبار يعملون بمنأى عن تأثير وتداخلات أصحاب رؤوس الأموال والملّاك، لكن الحرب على غزة، التي هشمت شبابيك مدن القطاع هدمت هذا الجدار أو حولته الى زجاج شفاف يسمح بعبور التصويبات والتوجيهات وفرمانات التغطية الإعلامية.
إلى عهد قريب، حافظت صحف على سجلها التقف خلفها أجندات مشبوهة..مهني الذي لم يكن بائناً للناس العاديين في أقل تقدير، لكن مشاهد الحرب على غزة فضحته، ولا جديد يضاف إذا قيل إن أوقات الأزمات الأخلاقية وسقوط الضحايا والحصارات تمثل مجسّ المهنية والانحياز والانقياد في التوجهات الإعلامية لأية مؤسسة، وهو ما يراه أيضاً الصحفي (عارف شهيد) الذي أكد أن الأحداث الكبيرة والتغطيات المهمة والمفصلية هي التي تكشف ميول المؤسسات الصحفية فيما لو كانت غائبة أو مغيبة عن الجمهور. مضيفاً أن “السبب يكمن أيضاً في تشابه المحتوى واختلاف زاوية التناول، وهنا وجدنا ووجد الجمهور كيف أن الحرب في غزة دفعت كثيراً من الصحف ومحطات التلفزة الى التزام سياستها وخطابها الإعلامي بما يتناسب مع إرادة ملّاكها، في وقت قرأنا كثيراً وصدعوا رؤوسنا أكثر بمعايير الحيادية والمهنية وقدسية الخبر الصحفي.” ويقول شهيد “لقد أخفت قنوات مشاهد الدمار والقتل الذي يتعرض لها أهل غزة، وحاولت إشغال جمهورهم والعالم بأشياء جانبية افتعلوا بعضها، منها مثلاً قصة قطع رؤوس الأطفال او اغتصاب النسوة.” موضحاً أن “الحوادث المفصلية في هذا العالم وعندما يرتبط الموضوع بدماء الأبرياء والأطفال والنسوة، فمن الواجب الدفاع عن الإنسان وإن اختلفنا مع أفكاره أو معتقداته أو لونه.”
صحافة غزة كسرت حاجز الموت
ويتفق الصحفي (فهد البدراوي) مع حقيقة انكشاف هوية وتوجهات وانحياز مؤسسات إعلامية صوب مراكز المال والسلطة وصناعة القرار السياسي. قائلاً إن “قيام مؤسسات صحفية عتيدة بمنع العاملين فيها من إدانة الهجوم الوحشي على غزة يُعد دليلاً واضحاً على انخراط هذه المؤسسات في مستنقع اللامهنية واللاحيادية.” البدراوي الحاصل على شهادة الماجستير في الإعلام أضاف أن “عمليّات التلفيق وفبركة الأخبار وتغيير اتجاه الجمهور، تحولت إلى سلوك دائم لدى هذه المؤسسات الصحفية، وهي بذلك تنصاع الى أهداف ونوايا ملاكها ورأس المال الذي يحركها، فيما السلوك المهني القويم يقتضي تزويد الجمهور بالحقائق.. ولا شيء غير الحقائق لأنها رسالة الإعلام الأولى.”
إن معايير السلوك الإنساني والمهني نصّت على أن لا حياد حين يتعلق الأمر بحياة الأبرياء وإرهاب الأطفال والنسوة، لكن المحزن أن مؤسسات إعلامية بقيت منقادة لأجنداتها، لكن الصورة المعتمة عن الوسائل والمؤسسات الصحفية هذه لا تلغي دوام وحضور مؤسسات أخرى تمسكت باتزان الطرح الصحفي، وكما يسميه (عارف شهيد) حين يضيف “وجدنا العديد من القنوات والصحف التي حافظت على موضوعيتها وقدمت، بل وعكست صورة ما يحدث في غزة للرأي العام”، فيما يؤكد البدراوي أن “ترهيب السكّان وتجويعهم وقتلهم بدم بارد لا يمكن أن يكون مسألة جدلية تحت أي مبرر وإنما نقطة توحد للضمير الصحفي والسلوك المهني.”
حرب غزة كشفت صمود شعب وفضحت ديمقراطيات وهشمت شعارات الحياد والموضوعية التي تمسك بها كثير من وسائل الإعلام، فبانت وكأنها ماكنات وأسراب ببغاوات تردد ما يقوله المحتل، ودليل ذلك، بحسب البدراوي وغيره من المراقبين، هو الحجب والحذف والتقييد الذي باشرت به منصة الفيسبوك والأنستغرام لكل صوت حاول أن يكون الصدى لأوجاع ومعاناة الضحايا، والحقيقة الثابتة هي أن الحياد الصحفي والسكوت في وقت الأزمات الأخلاقية يعد خروجاً عن السلوك المهني، فكيف يشار الى التضليل والتطبيل والانقياد؟