ريا محمود
حرص الإنسان منذ بدء الخليقة على ممارسة مختلف الطقوس، وإقامة العديد من المراسم عند فقد أحد الأحبة. واختلفت هذه الطقوس من شعب إلى آخر، ومن بلد إلى آخر، حسب أعراف ومفاهيم وموروثات كل شعب. ومثلما كان لوادي الرافدين أول حرف وأول عجلة، والترقيم والموسيقى، فإنه برع كذلك في حزنه، فكان أول الناعين، وكانت عشتار أولى النائحات.
امتد الحزن العراقي إلى بطون التاريخ، وعاش العراقيون أنواعاً عدة من الحزن، واختلفت طقوسهم باختلاف الأزمان والثقافات والاكتشافات. حتى جاء حزن كربلاء ليطغى بسواده وفجيعته على بقية أشجان العراق.
حزن الجدات
اعتادت جداتنا في البيوتات العراقية على لبس السواد طوال أيام السنة، وذلك لكونهن موغلات في الحزن، وزاهدات في ألوان البهجة. على الرغم من ذلك، فإن وجودهن في أي بيت يعد نعمة وبركة كبيرتين. ومع حزنهن المستتر والظاهر، إلا أنهن يوغلن في السواد حين يقدم محرم في كل عام حزناً على أبي عبد الله، وتعاضداً مع السيدة زينب، التي كانت أول من لبس السواد حزناً على فقدها الكبير.
كما تقوم جداتنا في أيام محرم من كل عام، عند حلول اليوم الأول، بإذابة (صبغة النيل) في قدور (الفافون) الكبيرة، ويشعلن الحطب تحتها ويغطسن كل ملابس الدار لتصطبغ بالأسود النيلي، حتى ملابس الصبية والبنات الصغار، وينشرن فوق السطوح على حبال ممتدة فوق أسيجة البنايات كل الملابس التي جرت صباغتها، إعلاناً منهن للحداد طوال خمسين يوماً من بداية شهر محرم وحتى العشرين من صفر. هذا الطقس استمر عقوداً طوال في جميع أحياء بغداد والمدن الجنوبية.
اعتادت (الحاجة أم عبد الله)، التي فقدت ولداً في حروب الطاغية العديدة، وشقيقاً قتله الكمد على أبنائه الثلاثة، أن ترتدي الأسود المصبوغ بالنيلة من كل عام، فتضع عباءتها على رأسها، وتتحزم بـ (يشماغ) ابنها الذي صبغته بأصباغ الجوهر السوداء، وزارت معه جميع مراقد الأئمة الأطهار. مثلها فعلت الكثيرات، فهن يصبغن ثيابهن بالسواد، ويلبسن (الجرغد) و(الفوطة) السوداء ويتوزرن بـ (إزارات) جرت صباغتها في البيت.
حفيدة الجدة أم عبد الله، تعيد ذكرى جدتها في كل عام، إذ ترتدي (شيلتها) وتتحزم بنفس الإزار الذي كانت تتوزر به جدتها، لكنها تنظر بهدوء إلى طفلتها التي لم تلبس ثوباً مصبوغاً كما كانت هي تفعل حين كانت في عمرها، لأن الأسواق اليوم تعج بالبضائع التي صنعت خصيصاً لهذه المناسبات.
لون الحزن
في التراث الشعبي والتاريخي العراقي، تروي بعض المصادر أن السيدة زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب هي من أوائل النساء اللواتي ارتدين الأسود حداداً وحزناً على استشهاد أخيها الإمام الحسين بن علي في معركة كربلاء عام 680 ميلادي (61 هجري). فبعد المعركة لبست السيدة زينب ومن معها من نساء بني هاشم السواد حداداً على الشهداء، وأصبح هذا تقليداً متبعاً في العديد من المناسبات الحزينة، خصوصاً خلال إحياء ذكرى عاشوراء.
يُعتبر هذا الحدث من أهم الأحداث التي أثرت في الثقافتين الإسلامية والعربية، ولاسيما في العراق، حيث ما يزال الحزن على استشهاد الحسين يرافقه ارتداء الأسود حتى اليوم. وعلى الرغم من أن هذا يرتبط بشكل كبير بالسياق الديني والطقوس المرتبطة بكربلاء، إلا أنه يمكن القول إن هذه المرأة التاريخية أسهمت في ترسيخ عادة ارتداء الأسود كرمز للحزن والحداد في الثقافة العراقية.
إطفاء المواقد
كانت المرأة قديماً في وادي الرافدين حين الحداد تخلع عنها كل أنواع الزينة من أقراط ومجوهرات، وتصبغ ملابسها باللون الأسود أو الأزرق الغامق بصبغة تدعى (النيلة)، إعلاناً منها الحداد وزهدها بالزينة ومباهج الحياة. كذلك جرت العادة أن تقدم الجارات لأهل الميت الطعام بالتتابع، إذ إن أهل الميت يطفئون نار موقدهم حزناً على فقيدهم. ويجتمع الكل أيام الأربعاء المقدسة عند المعبد ليتقاسموا الطعام والشراب حتى مرور موسم آخر، عندها فقط تعاد الزينة لأهل الميت في طقس يجرى داخل المعبد، هذه العادات والطقوس امتدت واستمرت عبر الأجيال.
كرم العراقيين
في شهر محرم، يجود العراقيون بشتى أنواع الطعام والشراب، تضامناً منهم مع زوار المراقد وإيماناً منهم بأن ما يقدمونه من مأكل ومشرب سيجلب الرحمة والسكينة لأهلهم من الأموات، ويديم صلة الأرحام والتراحم بين الناس.
في تسعينيات القرن الماضي، كان العراقيون يقضون أيام عاشوراء في الخفاء، بسبب منع السلطة آنذاك، التي كانت تمنع إقامة طقوس شهر الحزن، كمواكب العزاء ومآدب الطعام، وحتى المسير إلى كربلاء، لذا تجدهم اليوم يظهرون وبكرم هائل ما حرموا منه لعقود طوال، معلنين تكاتفهم أثناء الحزن، حتى صار العالم أجمع يتحدث عن كرم العراقيين، الذين كان اللون الأسود ينير طريقهم نحو غاية كبرى، وهدف سام، هو البقاء على طريق الإمام الحسين عليه السلام، الذي قدم نفسه وعياله وأصحابه من أجل تحقيق العدالة وقول كلمة (لا) كبيرة بوجه طاغية مجرم.