آية منصور حسن/
مع تزايد هجرة الشباب بسبب تردي الأوضاع الأمنية والخدمية وانعدام أفق المستقبل، يزداد الجدل، بل ويستعر حول التمسك بالوطن وتحمل الصعاب حتى تنفرج الأزمة، وبين من يرى أن الوطن هو المكان الذي يجب أن يوفر لأبنائه الأمن والأمان، وبين من يرى ان للوطن، هو الآخر، حقا على ابنائه، ترسم “الشبكة” من سيناريو وحوار حول طبيعة هذا الجدل وأبعاده، ونترك لقرائنا أن ينحازوا لاية فكرة أو أي خيار، من دون إلصاق التهم الجاهزة بمجتمع متكامل في بلاد تعيش الحرب.
أمي وأبي
كل من في الأرض شرب من كأس المعاناة ذاته، يرى الطيب الشاب محمد، أن سبب تمسكه بفكرة الوطن, يعد انتماء فطريا لبشريته، موضحا، “ننتمي لبلداننا كما ننتمي لأمهاتنا بالفطرة ومن دون تساؤلات أو طلب حجة”.
-ويضيف: أمور عديدة تمسكني للبقاء هنا، أمي، أبي، مكتبتي، بيتي! والحيّ الذي أقطن فيه، قد أجد الطمأنينة خارج الحدود نعم، لكنها طمأنينة بلا طعم، بلا روح، لن أجد الروح التي تشبهني كما في وطني.
ويؤكد لي الطيب، أن الشعوب التي تستقبل الآن أعداد النازحين الجدد، هي شعوب قدّرت أوطانها – التي مرت بحروب وصراعات يوما ما- جيدا, ولم تتركه بالسفر الى بلدان أخرى بحثا عن الأمن الشخصي، بل كافحت وناضلت حتى وصلت هذه المرحلة، تلك الشعوب قاتلت وقٌتلت ولم تستسلم، فمن سيحمي أرضنا لو تنصلنا جميعنا من المسؤولية وتركنا الأرض جرداء، تجري بها أقدام الأعداء بكل يسر؟!
مبررات الهروب
-أخبرته أن من يخرج, يخرج بعد نفاد آخر حبات الصبر والتحمل لديه, اذ لم يجد من يقدر انسانيته حقا, هو من حرب لأخرى ومن حكومة غير موفقة لأخرى ومن بطالة لأخرى، ليجيبني بحماس:
-ليس مبررا, فما أن خرج بعضهم، حتى اعلن موقفه البغيض تجاه الوطن، الذي يمر بمرحلة مرت بها جميع بلدان العالم لكنه يختلف عنهم بسوء حظه.
-لم يدع لي مجالا لسؤاله، كان يحاصر فكري فيما احاول اعطاء مضاد لفكره فيجيبني مسرعا، فكرت أن اخبره، بخروج عدد كبير من العراقيين، لشدة ما لمسوه هنا من خوف ورعب، ويأس بالغ بسبب انتظار الأمل الذي لم يعد، كما أن عددا كبيرا منهم، خرج هاربا من ذكريات له هنا، حكمت أن ترتديه، كلما مر فقيد له أو ذكرى سيئة من انفجارات واختطاف وسرقة لأحبة كانوا معهم يوما.
-حسنا, الآن, انه مبرر قوي، اجابني، ثم اكمل:
-لكن المانيا ألم تمر بحرب؟ ألم يحكمها هتلر ويدمرها؟ ألم تنهار مدنها في الحرب العالمية الثانية؟! ويسحق الملايين من أبنائها، إذن، كيف أصبحت الآن ملجأ للهاربين، لولا كفاح أبنائها – برغم فقدانهم لعوائلهم ومستقبلهم- كيف؟
يضيف أن العديد ممن سافروا، سافروا وهم لا يعلمون ما الذي يجري أو سيجري، وما الذي يريده حقا من ذلك الوطن؟! لذا عاد الكثيرون منهم ..
-هم شعوب منضبطة، يجب عليك أن تعمل كثيرا، اذ لا وجود للتمادي، أظن أن الشاب العراقي سيتعب كثيرا هناك.
ويكمل الطيب، عن نية التخرج والعمل هنا، طاردا فكرة الهجرة ابدا وأن تدهور الوضع بصورة مضاعفة، وأن كان الخطر فإنه لا يعرف خارطة محددة، أو مكان معين ليلاحقهم، مبديا تمسكه بإحساسه، لشفاء العراق، من مرض الحروب.
-ولو قررت عائلتك السفر؟
-“ابقى وحدي، بعد احسن”
يقولها ضاحكا ليكمل:
-بلا شك تأتيني لحظات الضعف تلك، كالتفكير بالهرب من هذا الألم، لكني خلقت عراقيا، في عراق بحروب، وعلي تقبل ذلك.
-ولن تهاجر, امازحه:
-لن أهاجر.. بابتسامة!
أتفهم فكرة الهروب ولكن!
أما سرى، المحامية التي خسرت شقيقين لها في انفجار في مدينة الصدر، فتشرح لي باسمة عدم قدرتها على الابتعاد عن شقيقيها لمدة طويلة:
-لا أعلم ما السبب الذي فعلاه ليموتا هكذا وهما في عز شبابهما، لا أفكر بانقطاع زيارتي لهما، أو ترك والدتي التي تبكي ليل نهار عليهما، فهل اتركها هي الأخرى؟ اجزم أن غالبية من تعرضوا لخطر هنا يفكرون بالسفر، واتفهم هذا الموقف تماما، لأني مررت به مرارا, أن تكون حائرا بين زرع جذورك هنا، او قلعها تماما لأنها مؤذية، وفي الحالتين الوضع مؤلم، فلا المغترب يشعر براحة ولا من يسكن هنا.
وتكمل سرى عن انانية الحروب وقدرتها على تشتيت أقدار الآخرين والتلاعب بهم واصفة حيّهم بالمقبرة بعد سفر وترك العديد من الجيرة له مؤخرا:
خياران
طريقتنا في حب هذا الوطن غريبة، قبل عدة أيام تطلقت امرأة من رجل يريد السفر لكنها كانت رافضة تماما تلك الفكرة، وحتى لا تبقى معلقة به، وبعد أشهر قليلة من زواجهما، انفصلا.
استغربت كثيرا فيما تدقق بهاتفها المحمول. – وأنا وهي يغرقنا الصمت-, حول فعل الزوجين, أي فض رباطهما المقدس لأجل هروب من واقع قد يبدو الأصعب في الوجود. لكني عوضا عن ذلك, سألتها اذا ما حدث لها ذات الأمر, ,طلب زوجها السفر معه أو الانفصال. فكيف ستوازن سرى. كفة خياراتها من دون نقصان أو زيادة في وزن احدهما. لترفع رأسها بدهشة قائلة:
-اووه! سؤال صعب, لم افكر به مطلقا, ولم يبادر زوجي بحديث كهذا معي مسبقا, لكن لو اردنا الافتراض. فبلا شك سأفعل كل ما بوسعي فعله, لأجل بقائنا معا هنا. حتى وأن تطلب الأمر تذكيره بأول شجرة حفرنا اسمينا عليها, وكيفية استحالة ايجادها في بلد آخر.
تطلق سرى ضحكة:
-أو قد اخبره, أن موتنا بطريقة درامية تحمل المغامرة أفضل بكثير من موت بارد.
تكمل ضحكتها وهي بعد ذلك, تجد أنها – وكمحامية- لن تملك قدرة على البدء من الصفر, والخوض مجددا في سبل الدراسات والبحث عن الوظائف والسكن الجيد.
تؤكد سرى, أن لكل شخص في العراق طاقة محدودة متحكمة بوجوده هنا, تعتمد في نهايتها على الشخص, مستدركة انجراف احدى جاراتها في البكاء والنحيب قبل سفرها وعائلتها، عند عتبة الباب وتوديعها للجيرة.
-بكاؤها كان كافيا ليخبرنا كم أنها تحب البقاء هنا، وكم أنها غير قادرة على تركه، لكن الظروف تحول دائما دون رغباتنا.
صار من المعيب ذكر نيتك بالبقاء!
-لمن اتركه؟
يقول علي، صاحب احد المحال التجارية للتسوق المنزلي – تلك العبارة المنمقة بعناية- بوجهي, شبه هازئً بسؤالي, ليعيدها بصياغة أخرى:
-لمن؟ لداعش؟ لنتركهم بعد سرقتهم لمحافظتين، أن يستولوا على الأخريات؟
وقبل أن اكمل سؤالي, عما يملك هنا اعاد جوابه بسؤال آخر:
-هل علي الاحتفاظ بشيء لي لأبقى هنا؟ سيعتبرني بعضهم مثاليا, خصوصا ممن هاجر. اعرف, حتى انهم وبعد ادراجي أي منشور في صفحتي في الفيسبوك عن نية بقائي هنا يستقبلوني بالسخرية والضحك. لماذا؟ هل صار معيبا أن نقول لا نفكر بالهجرة؟ هل اصبح تشبثنا بالأرض تمثيلا لافتقارنا مؤهلات السفر مثلا؟ هل أصبحت الآية معكوسة هكذا؟ أن نسكت تماما ولا نتفوه بحرف لئلا نُطعن بالكذب والرياء والتمثيل. لم لا يصدقوا أن هنالك اناسا لا تفكر بالهجرة ويحترمونهم كما نحترم رغبتهم بالسفر؟ لم هذا التشنج دائما. أن نكون فريقين متخاصمين دائما وفي كل شيء, لم لا يترك أحدنا الآخر وشأنه, لم نحمل من سافروا تهمة الخيانة, فيما يحملوا من بقي هنا تهمة المثالية والتمثيل “لعدم توفر فرص لهم” . ليسافر من يرد أن يسافر. الأرض ليست ملكا لاحد لكن لا يحق لبعضهم وبمجرد خروجه وصف الباقين هنا بالمثاليين أو المثيرين للشفقة فقط لكونهم اختاروا البقاء في مكان يجده بعضهم حفرة ليس الا.
لم يدع لي شيئا لأطرحه عليه. كان جوابه مثل صفعة قوية تعيدني أدراجي, ويؤكد علي – بحسب قوله- أنه لا يفضل ترك البلاد فيما هنالك عشرات الاف الجنود الذين يقاتلون لأجل عودة أراضينا, والاف النازحين الذين ينتظرون لحظة عودتهم لمنازلهم.
أنا والجنود
-ما الفرق بيني وبين الجنود الذين يدافعون عنّا؟ بماذا أنا أفضل منهم؟
-أنت تطرح الأسئلة أكثر مما تجيب عن أسئلتي، قلت لعلي، فاطلق ضحكة عالية, فيما يؤكد لي أن ما يجري الآن هو سلسلة من التساؤلات, لم نسافر, ولم نبق, لم نعش هكذا. وما الذي علينا فعله بعد كل هذه السنين, وهل حان الوقت حقا لنبحث عن وطن آخر. لكنه يختم أسئلته العديدة بسؤال غريب لي:
-وأنت؟ هل تفكرين بالهجرة أيضا؟
– أنا؟
-نعم
لم أجبه. ولا أعرف!