حفلات التخرج عنوانٌ للفرح تحت طائلة المبالغة!

إياد السعيدي /

قبل نهاية كل عام دراسي تنتشر صور وفيديوهات لحفلات التخرج، يرافقها شيء من النقد والقسوة والتنكيل. وبالرغم من أن العامين الماضي والحالي لم يشهدا دواماً منتظماً بسبب جائحة كورونا، إلا أن الخريجين يصرون على تكرار هذه الطقوس مثلما كانت وبأساليب أكثر تطرّفاً من حيث الملبس التنكري والصخب الغنائي والتجوال في الطرق الرئيسة.
حفلات التخرج تلك تعبر عن فرح مكبوت وصرخة محبوسة قد تكون لها مبرراتها الفردية كسلوك يستمده الطالب من الواقع المُعاش وبيئته التي نشأ فيها، فهو جزء منها ومرآة للسلوك العام حتى وإن تطرف بعض الشيء. مناقشة حرة على هامش تحليل هذه السلوكيات التي ابتدعها الطلبة حديثاً وأصبحت سمةً لجامعاتنا ومعاهدنا، يأسف أغلب أفراد المجتمع لوصول طلبتنا إلى هذا المستوى الذي يعيبه بعض الناس ويستسيغه بعضهم الآخر مع شيء من التماس العذر لهم عن أي سلوك أو تصرف.
واقعاً، فإن أغلبنا احتفل بتخرجه في الماضي ضمن تقاليد وأعراف العهد الذي عاشه، وذائقة المجتمع آنذاك، وجرياً على العادة، فإن ما يمارسه خريجو اليوم ليس بعيداً عن ممارسات البيئة المجتمعية والعادات الدخيلة التي تتغنى بالمفاخرة و(الدكَة العشائرية والكَوامة والبي كي سي)، وما يشاهده الشباب عبر محطات التلفاز وشاشات هواتفهم التي أصبحت المحرك الرئيس لميولهم وسلوكهم، وحتى الأزياء التي يرتديها الشباب والشابات هي جزء من ظواهر جديدة في المجتمع برزت ونمت مع عهد الانفلات الأمني والإعلامي والاجتماعي، وقد تكون مترافقة مع نمو المستوى المعيشي والانتعاش الاقتصادي لعائلات طلبة الكليات الأهلية التي يدفع الطالب فيها عشرات الملايين، فلا أهمية لمئتي ألف دينار في حفل تخرجه، بينما يختزن كلٌ منّا في ذاكرته البعيدة مشاهد حفل تخرجه التي لم تنفصل عن تقاليد المجتمع أبداً كجيل خريجي سنوات الحرب في الثمانينيات مثلاً، الذين كانوا يرقصون كالطيور المذبوحة على ألحان أغاني تلك الحقبة، بل على أنغام أغاني الحرب وإيقاعاتها ويعانق بعضهم بعضاً ببكاء وحرقة لأنهم يعرفون أن مصيرهم جبهات القتال والابتعاد عن زملاء المرحلة مشتتين على طول الحدود ولا علم لهم بنهاية الحرب وكيف ستكون.
حصيلتنا هنا جملة من الآراء ووجهات النظر مؤيدة أو رافضة، وللجميع حق الرد والحوار ولا ضرر ولا ضرار، بدأنا مع أصحاب الشأن وهم الطلبة المتخرجون حديثاً:
(ليث طالب)، خريج قسم تقانة الحاسبات ٢٠٢٠، التقيته في سيارته (التكسي) وطرحت عليه سؤالي عن حفلات التخرج ورأيه، ففاجأني بشهادته واختصر الإجابة ببضع كلمات إذ قال : “أي حفل وأي تخرج؟ لو احتفلت مثلهم لندمت طوال حياتي لأني أعرف مستقبلي، وأن معاناتي الحالية في الشارع وصراعي مع الحياة يؤكدان ذلك.”
وعن استمرار فرح الطالب وامتداد نشوة التخرج لتتصل بمستقبل الخريج تقول (نسور سليم)، خريجة معهد الفنون: “حفلات التخرج هي مكافأة كل خريج بعد تعب طويل من الدراسة وضغوطها، وهي احتفال بمجهودنا بعد كل مرة نعبر فيها مرحلة لتحقيق حلمنا، ومن حق أي طالب أن يحتفل ويفرح، كما أننا نودّع بعض الأصدقاء الذين سنفتقدهم، ولا تقتصر الاحتفالية على الزملاء فقط، بل حتى الأهل يحضرون حفلات التخرج ليشاهدوا أبناءهم وبناتهم وهم يخطون نحو مستقبل جديد.”
أما الحفلات التنكرية فلا بأس أن تكون ضمن حفلات التخرج، إذ تجسد المجال الذي تعلّم فيه الطالب، فعلى سبيل المثال يتنكر خريجو كلية الزراعة بملابس الفلاحين تجسيداً لعلاقة ما درسوه بهذا الزي، أو خريجو كلية القانون الذين ارتدوا زياً يشبه زي حمورابي، فإن ذلك من شأنه أن يُظهر عراقة القانون وأصالته.
الدكتورة (فاتن الجراح)، خبيرة المسرح، حدثتنا قائلة: “مهرجان التخرج تعبير عن الاحتفاء بتحقيق أجمل الأحلام التي تراود الطلبة، وهو بوابة للدخول إلى الحياة العملية، وللأسف هناك من يتحامل على هذه الفعاليات وكأننا خلقنا للحزن والعزاء فقط. ويركز بعض الناس على الأزياء التنكرية من حيث كونها تتعارض وتقاليدنا وقيم مجتمعنا، وهنا يحق للشباب التساول: لماذا تتعارض تقاليدنا والفرح وترغمنا على تقبل الاحتراب والقتل؟ لماذا تتعرض خطوات الشباب للانتقاد والرفض؟ فلا التظاهر ولا حفل التخرج يلقيان قبولاً، لماذا ترسمون للشباب أطراً متخلفة متهرئة وهم يجتازون عقدين من القرن الحادي والعشرين؟” وتختم حديثها بالقول: “هنيئاً لشبابنا الخريجين وتمنيات بتحقيق آمالهم في عراق يليق بهم وبتطلعاتهم نحو التقدم.”
أما (د. أزهار الشيخلي)، النائبة ووزيرة المرأة السابقة، فتقول في هذا الصدد: “لا عيب في الغناء والرقص، ولاسيما إذا كانا خارج الحرم الجامعي، لكن كم من الطلبة، ولاسيما الطالبات، يستطيعون المشاركة في هذه الحفلات وتحمل تكاليفها؟ الثياب ومستلزماتها والصور وغيرها؟ هناك من يفكر فقط بالعيب والحرام، لكنه لا يفكر في الجوانب المجتمعية والفروق الفردية، أعتقد أن الأفضل الاكتفاء بحفلات التخرج الرسمية وكذلك الحفلات التي تقام في قاعات خارج الكلية، ولا يلزم أحد بالمشاركة فيها، ولستُ مع إقامة الحفلات التنكرية والبهرجة لكلفتها العالية، ناهيك عن أن الطلبة ينصرفون عن محاضراتهم مدة طويلة للتحضير لها.”
قد يكون الكاتب (سلمان النقاش) صلباً بعض الشيء في رأيه حيث يقول: “لم يعد الاحتفال أمراً متيسراً في حياة الناس، فمناسبته يجب أن تحظى بمساحة اتفاق اجتماعي، وكأية ظاهرة اجتماعية عراقية تتفاعل وفق الظروف التاريخية التي يمر بها العراق اليوم، تأخذ صور الاحتفال في المناسبات المفرحة العراقية أشكالاً مختلفة تبعاً لطبيعة المبرر لقيامها، وتعد احتفالات التخرج للطلاب في الجامعات الأهلية والحكومية فرصة كبيرة للتعبير عن الطاقات الضخمة التي يختزنها الشباب بصور لا تختلف كثيراً عن الصورة العامة التي يبدو بها المجتمع بأكمله، وإن بدت الملامح مختلفة، لأن الاحتفال الجامعي يفترض تميزاً تُتيحه الحياة الجامعية بدعايتها التي تريدنا أن نفهم منها أنها تصدّر طاقات مؤهلة لإنتاج ضخم يفترض أن ينتج هو الآخر علاقات اجتماعية راقية، إلا أن الأمر غير ذلك تماماً، فاختيار الدراسة الجامعية هو مجرد إضافة هوية ورقية لا تعني شيئاً في سوق العمل، وعليه فهو لا يصدر مشاريع شخصيات بل أفراد يشبهون الصورة الافتراضية العامة، فالاحتفال بالتخرج إذن ليس إلا متنفساً للتعبير عن الطاقة الشبابية التي تستجيب لبيئتها، وهي بيئة تتوهم الرقي والنبل والثقة، وهذه صفات لا يمكن إنباتها في أرض رخوة، فلا غرابة أن تظهر صور الاحتفال بأشكال فوضوية أو حالات مصطنعة.”