حكاية صورة

مقداد عبد الرضا

 

 

لا يمكن للصورة الفوتغرافية أن تكون فقط حدثاً وكاميرا، ربما الأساس يكمن في الصورة ذاتها. ما يحدث يظل عالقاً في الذاكرة، أو يعبر دون ترابط. نرحل وتظل الصورة تحلق، أسىً أو متعة.

 

 

 

الخيال هو الوتد الذي يرفع خيمة المعرفة، تتوسده الطفولة، كثيراً ما يربك المعرفة، إذ تقف العبارة عاجزة عن التحكم بالرؤيا. هل سبق لك أن حلمت بعالم متخيل؟ أم أنك عشته حقا؟ هل نموك يعيدك إلى طفولتك؟ أم يثقل عليك كاهلك؟ الإنسان لا تطهره سوى البدايات. كان جداراً أبيض تعانقه نجوم تتلألأ. يغنون وأرافقهم بصوت طفولي حميم، الصوت غلبته الصورة، سَحَرة يعتمرون الطرابيش والقبعات والعقال، أتقافز معهم، يقولون إن أبا خليل القباني هو أول من بدأ بخيال الظل، بعدها جاءنا المسرح وعلمنا الترحال وشع الخيال. كان التلفزيون قد بدأ يلقننا الخيال من خلال (القره قوز)، شع هذا اللون وتعاشق مع العالم. زار البلاد الفنان المصري محمود شكوكو وقدم مع أول ثنائي لهذا الفن الحميم هما أنور حيران، الذي يقف إلى يمين الصورة، وطارق الربيعي إلى يسارها. إنه سحر الأيادي الأخاذ.

 

 

تقول الليدي دراور في كتاب (بلاد الرافدين صور وخواطر): «هذه هي بابل، تلك المدينة العظيمة، إنك لتسمع تغريد القبّرة فوق صحرائها المترامية، أو تشاهد خفقات الماء تنساب رافعة ذيولها بين الأعشاب النابتة في الحفر القريبة من تلك الأرض الشاسعة. يزعم الألمان أن برج بابل العظيم كان يقوم فيها شاخصاً نحو السماء، مرحى بابل، الجميع يأتي إليك ويسعد بما يرى، الجمال هو المطلق، شاع الإعلان أول الأمر بالصراخ، طبل وصوت جوهري، ثم الكتابة على الجدران، فالصحف والصورة، أسد بابل يحتوي الحلوات ويستدرجهن للوقوف أمامه للإعلان عن الطيران في ستينيات القرن الماضي. ألم نكن نملك بساطاً سحرياً ونطوف حول العالم؟ إنها الأعناق التي ترتفع لتعلن عن البلاد.. العراق.»

 

 

 

المرأة التي طافت الجبال والأراضي الوعرة بحثاً عن بيت فقدته منذ زمن، تنظر في البعيد، حيث ضوء خافت يتلألأ، وبيت مهزوم بعيداً عن الضجيج وسوء الإنصات. بعض الغناء العذب يأتي من ذلك البيت، بعض المدن تحرم الإنصات. المرأة تنظر إلى زوجها وتخبره بحسرة: «منذ زمن طويل لم نعد نسمع غناءً طيباً، ياللأسى.» المطربة غادة سالم في إشارة وكأنها تحتج على عدم الإنصات، لذلك آثرت الابتعاد والاحتفاظ بصوتها الجميل لها فقط، ولنا العزاء. في الصورة معها الراحلان الأستاذ حسين قدوري الذي يقف في عمق الصورة، وعازف الجلو محمد عثمان.

 

 

هل جربتم تلك النظرات الحميمة التي عادة ما كانت تبنيها هذه الأماكن؟ أم يقولون نظرة فابتسامة فطعام طيب. ابنتكم حلوة، ابنكم أجمل. تصدح الهلاهل وتتكون الحياة. التأمل سيد المحبة ورفيقها الدائم. أهل المربعات يصدحون (المايزور السلمان عمره خسارة)، الخسارات اللئيمة أطاحت بفرح هذه الخسارة وأبعدتها. نحن نتطلع إلى هذه العباءة الحانية والنظرة الحميمة، ونرفع أيدينا من أجل بلادنا، ونقول عسى أن يصلح العطار ما أفسده الدم. حكاية الصورة واضحة، سلمان باك ستينيات القرن الماضي، المصور إمري سليم، أرشيفي الشخصي.