حكاية صورة

 

مقداد عبد الرضا

عليك ألا تتأكد من موهبتك يوماً ما، إن فعلت، رنّ جرس التراجع.
كان يحمل كاميرته دوماً، وخاض تجارب من الصعب الخوض فيها، وبعد أن تأكد تراجع، أراد صاحبي أن يناكده، ويكتب عن المصور الفوتغرافي الذي صار ينسى عينيه ويخرج، لم أتقبل الفكرة لقساوتها، رحل الاثنان، وبقيت أتذكر.. إياك والنسيان.

 

الحصار اللئيم درسٌ موجع في تاريخ البلاد، هاهو يضرب أرواح الناس (الجوع كافر)، الهمم تُخذل، لكنها تظل تقاتل من أجل لقمة الأطفال، كل شيء يتسربل بعيداً، كل شيء مباح للبيع، الأواني، لم تعد الأرائك متكأ. الأهل يتوسدون الأرض، الهواء يخترق البيوت، الأبواب تختفي ومثلها الشبابيك، القلق ينخر قلوب الأمهات، هاهن يصرخن بوجه الآباء، الآباء يحملون تواريخهم ويسرعون بها من أجل البيع، جوع الأطفال قاتل، ويجب أن يُقتل، الكتب تغادر أماكنها عنوة وتنوح، ترمى هكذا، يستقبلها شارع المتنبي بأي سعر (بيع)، ليس مهماً أن تباع الكتب، لكن الأهمية تكمن في الوثائق.
هذه الصورة لمستودع الأسلحة لشرطة الخيالة في الناصرية، قطعاً هي لمصور أجنبي جوال.

 

الوقت ليل بغداد العامر، المكان مسرح بغداد نهاية سبعينيات القرن المنصرم، أصابع عشرة وبخفة محترف تضرب الطبلة الصغيرة، صوتها يشنف (عيون النظارة)، بانتظار اللاعبين كي نحلق عالياً في صحون طائرة، ونتطلع من الأعالي إلى سماء بغداد، كم كانت صافية، لاعبان يحملان حرفة السيرك وأسراره المتعددة، خيط اللعبة يمسك به شيخ آلى على نفسه السير فوق السحاب. السيرة ترجمها جوّاب مجرب، أما الأصابع العشرة، فهي لابن الجنوب، يعرف كيف يراقص الدنيا. المكان مسرح بغداد، من مسرحية (رحلة في الصحون الطائرة)، ترجمها الراحل فيصل الياسري، وأخرجها الراحل إبراهيم جلال. اللاعبان هما، الراحل سامي عبد الحميد، والراحل قاسم محمد، أما قارع الطبلة، فهو الراحل عدنان يوسف.
الصورة للمصور حازم باك، أرشيفي الشخصي.

 

“بُلينا وماتبلى النجوم الطوالع.. وتبقى الجبال بعدنا والمصانع”
مس بيل كتبت بخط يدها وباللغة العربية هذا البيت للشاعر لبيد بن ربيعة في بداية كتابها (من مراد إلى مراد)، لتأخذنا في رحلة شاقة وعجيبة. يقول الأستاذ المترجم لهذا الكتاب، عبد الهادي فنجان، وعلى لسان الأستاذ (قزانجي): “لاتوجد من هذا الكتاب في العالم سوى ستين نسخة، بحسب الإحصائيات، وأن ماموجود في مكتبة المتحف العراقي، نسختان فقط من هذا الكتاب الخطير، وهما نسختان نادرتان.” أما قصة حصولي على نسخة ثالثة، فهي متعة حقاً لو سمحتم لأرويها. الصديق الأستاذ الراحل قحطان الملاك، رحمه الله، كان يمتلك مكتبة عامرة ومتنوعة في منطقة الكسرة، بالقرب من معهد الفنون الجميلة القديم، عن تاريخ البلاد، وبلغات عدة، كل سبت، أحضر مجلساً له، يكون عامراً بالأساتذة الأجلّاء، همهم تقبيل تربة البلاد والحديث عنها، كان لي مطلق الحرية في البحث في تلك المكتبة، فجأة التمعت عيني على هذا الكنز، (كتاب من مراد إلى مراد)، بلغته الأصلية، وكنت سابقاً قد تعرفت إليه، كان الثمن بخساً وبسيطاً، وياللبهجة، إذا ستكون هناك نسختان في المتحف، ونسخة لديّ، ليذهب العالم ويبحث عن 57 من نسخه الباقية، ثروة، شخصياً لاتهمني.
الصورة المرفقة بالكثير، وهي تعود لأهل (راوة)، وهم فرحون، يتطلعون لمِس بيل، وهي تلتقط لهم هذه الصورة من الجانب الآخر من النهر. مايهمني سرد الرحلة، مس بيل تنحر الصحراء من نجد والحجاز إلى العراق، ثم سوريا ولبنان وتركيا، لتستقر في العراق بزمن قياسي، أربعة أشهر، إذا ماعلمنا صعوبة حركة التنقل آنذاك! الجمال والبغال، وقطّاع الطرق، وتقلب المناخ. ما الذي يدفع بامرأة أن تقوم بكل هذا؟ مس بيل أسست لنا المتحف العراقي، والمكتبة العامة التي هدمت للأسف في العام 1959. عصر يوم الثاني عشر من شهر تموز من العام 1926، وقف المندوب السامي البريطاني، هنري دوبس وقال في ختام كلمته: “إن عظامها ترقد حيث أرادت أن ترقد، في تربة العراق.” فهل علينا أن نشكرها أم..؟