آمنة عبد النبي /
شِجارٌ طفوليٌّ طائشٌ حول “دجاجة” بإمكانه أن يقلب البيوت الآمنة بسكانها إلى ثكناتٍ عسكريةٍ “مطلوبة ثأراً” متى ما اشتعل فتيل المعركة وتعالت أصواتُ الرصاص ما بين العشيرتين المختلفتين، لا يحتاجُ الأمر هُنا الى أكثر من عقليةٍ همجيةٍ تؤمن كلاشنكوفاً وقنبلة يدوية بيدِ أحمقٍ.
أبسط وصف للدكة العشائرية أنها هجوم مباغت وإطلاق نار مكثف بمختلفِ الأسلحةِ، بما فيها الثقيلة القادرة على ثقبِ حيطان المنزل المطلوب، في إشارةٍ لسحبهِ إلى المفاوضة ودفع “الفصل” تنكيلا!
ترى كيف تمكن العقل الجمعيّ من تطويع وتقبءل فكرة “الدكة” العشائرية كبديلٍ تأديبي عن مقاضاة الجناة بالقانون؟ ولماذا تحولت “الفصول” عند هواة المشاكل الى بنكٍ مفتوحٍ لاستحصال الأموال المدفوعة من صندوقِ العشيرة؟ وما سرّ السلاح العشائري المُنفلت باستهتار ولا يضع وزناً لأمن العوائل، ولا حياء من الشرعِ ولا هيبة من جهازِ الدولة الامنيّ..؟
خرابٌ ودمويّة
ليلة بصراوية عصيبة عاشتها المدينة، إثر مشاجرة بين طفلين على “دجاجة” دخلت بيت أحدهما ولم تخرج، قابلها تشنج طفولي أشعله غياب حكمة الأبوين اللذين تشابكا بالأيدي عقب ضرب أحد الصغار للآخر بحجر، دقائق دموية تطورت فيها تلك المشكلة التافهة الى حرب شوارع ما بين العشيرتين بالقنابل اليدوية وأسلحة الكلاشنكوف التي ابتلعت طلقاتها الطائشة اثنين من المارة دون أي ذنبٍ أو يد!..
يقول (عبد الحكيم الفرطوسي)، الجار الملاصق لصاحب البيت المحروق، الذي هجره أصحابه بعد أن كتب عليه (مطلوب دم عشائرياً):
“لقد عشنا أياماً مرعبة، ولاسيما نحن الجيران الملاصقين لأصحاب المشكلة التي بدأت للأسف بسلوكٍ طفولي تافه بين أطفال الجيران، الموضوع تطوّر حينما امتدت يد أحد الأبوين على طفل جاره بالضرب، خرجنا على إثر الصراخ والألفاظ غير اللائقة بين الآباء، وحتى أمهاتهم للأسف، حاولنا تهدئة الأمر مع بعض الوجهاء، ولغاية الليل كنا على وشك مصالحتهم وعمّ الهدوء قليلا، لكن عم أحد الطفلين خرق الهدنة وأحضر أولاد عمه في ساعة متأخرةٍ من الليل بأسحلتهم الكلاشنكوف و (دك) جاره بوابل من الرصاص لتصاب امرأة داخل البيت بشظية، وهنا انفلت زمام الأمور، وفي الحال حضرت عشيرة (المدكوك) لتهجم على بيت الأول فحدث الصدام المباشر لساعات وقتل على إثره اثنان من المارة، كانت ليلة مرعبة غاب فيها صوت العقل والدين والاتزان، وحتى نحن هربنا من بيوتنا خوفاً من الشظايا المتطايرة، المصيبة أن لا أحد بإمكانه الدخول بينهم لأن الداخل ميت ولا نصيب لأي وسيط سوى رصاصة طائشة، استمرت المعركة لساعات متأخرة من الليل، القوات الأمنية التي عجزت عن مناداة الطرفين للتهدئة، اضطرت لمحاصرة المكان لساعات طوال، ومناوشات انتهت بسقوط ضحايا كثر ومعتقلين وبيوت محروقة ومهجورة للأسف.”
تجارة واستهتار
الكاتب والمدوّن (وعد القريشي) هدم ثقافة الفصول والمتاجرة المادية بالمصائب حينما تعرضت ابنته الصغيرة لحادثِ دهسٍ مروع في أحدِ أزقة بغداد، والمفاجأة كانت في كيفية تعامله مع الجاني وعشيرته، يقول القريشي:
“لكِ أن تتخيلي أباً يهرع مهرولا على صوت مرعب لسيارة يقودها سائق بسرعةٍ فائقة داخل أزقة وشوارع فرعية، وتحت عجلاتها تنسحق فلذة كبده وسط صراخ أمها، المشهد كان كفيلا بجعلي أقتله، لكنها حكمة الحياة ورجاحة العقل التي أنعم الله علينا بها، لقد نجت ابنتي من الحادث واستعادت عافيتها، لم يكن يشغل بالي شيء غير أن أراها تمشي مجدداً، لا أنكر مشاعر الغضب والاحتقان الطبيعي وحث الجميع على (مكاومتهم عشائرياً)، لكنني أصررت على تحويل سلامتها الى فعلٍ ثقافي يحذو حذوه الجميع، ورسالة محبة وتسامح ودرس أخلاقي لكل من يتخذ من مصائبه (بنكاً) لدر المال، وحينما جاءت عشيرة الجاني بضيافتنا لطلب الصفح والتكفل بمصاريف الحادث والاستعداد لدفع الفصل المُرضي لنا، طلبت منهم قراءة سورة الفاتحة لجميع الموتى ولروح السيدة أم البنين، كفصل عشائري للذي دهس ابنتي..”
ومن محافظة ديالى – حيّ الگاطون- تستذكر السيدة سناء العزاوي حادثاً عشائرياً مؤسفاً تعرضوا له أفقد أخاها إحدى عينيه قبل أعوام عدةِ ، تقول بلوعة:
“كان لنا جار مؤذٍ (ومسنود)، لا يكف أبناؤه عن الإساءة لجميع من في المنطقة، وبما أننا ملاصقون لدراهم كان نصيبنا من الأذى حصة الأسد، في أحد الأيام وأثناء عودتنا للبيت من المدرسة أنا وأخي وأبي، صادفتنا نار صغيرة كان قد أشعلها ابن جارنا المشاكس، الذي تعمد أن يضع بداخلها (رصاصة)، وما إن وصلنا لباب البيت حتى حدث الانفجار وتطاير الحصى وشظايا الرصاصة التي استقرت إحداها في عيني أخي وأفقدتها النظر تماماً، حاولنا إصلاح الأمر سريعاً في المستشفى لأن النظر بلحظتها لم ينطفئ تماماً، لكن للأسف استقرت الشظية في مكان حساس، وكان من المفترض أن تتعامل معها الطبيبة آنذاك بحرفية ودقة، لكنها قطعت السائل الزجاجي للعين وأفقدته البصر تماماً، لقد حلّ بنا الغم والهم لدرجة أننا غادرنا فيها المدينة بأكملها، أتذكر أن الجميع كان يحث أبي على أن يقاضي جار السوء والطبيبة عشائرياً، لكنه رفض رفضاً قاطعاً وقال بالحرف الواحد: عين ابني راحت ولا أريد أن أخسر أولادي، الدماء تجر الدماء وحبل الشرّ ممدود فلنحتسب أمرنا الى الله.”
قضاء وتسامح
امّا محافظة الناصرية، فكان لها نصيب عشائري استذكره لنا طالب ثامر الدراجي، إذ نكلّ بالجاني على طريقته، قائلاً:
“فور وصولي للمستشفى وجدتُ ابنتي فاقدة لوعيها على سرير الأشعة وبجانبها ضابط الشرطة الذي هدأ من روعي وقال إن السائق الذي دهسها محجوز في المركز، صدقيني ما إن اطمأنت روحي على صحتها، وحتى لو كتب الله لها أجلاً، فلا راد لقضائه، قلت للضابط: لن أقيم شكوى وبمجرد خروجها من المستشفى سوف ألحق بك لأخرجه من الحجز، هذا قضاء الله وقدره وإذا حلّ لن يتأخر، وفعلاً قمت بإخراجه، اليوم التالي حضر مع عشيرته بصحبة رجال أخيار ووجهاء وسادة وطلبوا مني (عطوة) لبضعة أيام وبعدها يتم دفع تكاليف الفصل الذي أطلبه، رفضت رفضاً قاطعاً وقلت: طالما كان السائق غير متعمد فخطؤه وارد لنا جميعاً، وأخذ المال على قدرٍ كتبه الله هو عيب وتشويه لسبيل المعروف الذي تربينا عليه بلا مقابل، اشربوا شايكم واقرأوا سورة الفاتحة ثواباً لأبي الفضل العباس وأهلاً بكم كضيوف لا وسطاء.”
صراع وأصالة
“كفتا الميزان العادلتان هما القيادة الحكيمة التي عهدناها بوجاهةِ عشيرتنا ومشيخة جدي ووالدي في عموم محافظة واسط، بإقرار حقن الدماء وفض النزاع، لا المتاجرة بمصائبه، وهو ما تعاهدنا عليه مع باقي العشائر وأن من يخرق القانون ويهجم على منازل المواطنين تتبرأ العشيرة منه”..
هذا هو الإقرار العشائري المُتبع في مضيف الشيخ فيصل بن راهي الحسون السعيدي في محافظة واسط، حيث تكلم لنا ولده الشيخ مصطفى بن فيصل بمرارةٍ عن الفجائع التي تخلفها همجية بعض الأعراف العشائرية، قائلاً:
أن يصل الاستهتار العشائري للاعتداء على حامل راية أبي الفضل العباس، كما شاهدناه في مواقع التواصل، والمجازفة بحل النزاع وحقن الموت فهذا ما لم يكن بالحسبان وسيظل وصمة مُعيبة تستدعي من جميع العشائر موقفاً موحداً لإنهاء ذلك الانفلات والسمعة السيئة التي لحقت بنا جميعاً بعد أن شاعت الأعراف العشائرية الهمجية الخارجة عن إطار الشرع والقانون وأصبحت سائدة في مجتمعنا، بل أخذت تتجه نحو المتاجرة بالمصائب من خلال ترويج ثقافة (الفصل) التي يمكن اعتبارها نتاج تغير مفاهيم الحياة العشائرية النبيلة وثقافات المجتمع وانفتاحه، أصبح هنالك من يتقصد بوقاحة تشويه كرم وخلق ونبل المضايف التي كبرنا تحت شهامتها والتي يظل دخيلها محمياً وحرمتها بشارب الخيرين، أشياء ومسببات تافهة أخذت تبتلع أرواح البسطاء، لقد أصبح الصراع على دجاجة او مشاجرة بين أطفال، يذهب ضحيتها من أخيار المجتمع وزهاده وفقرائه، الوضع العشائري في بعض المحافظات صار يشبه تصارع الوحوش في الغابة من أجل بقاء الأقوى، لا نستمع إلى القرآن ولا إلى حديث النبي وآل بيته، ولا للمراجع الكرام ولا لأولي الأمر منا ووجهائنا الأكبر سناً، والسبب في ذلك كله يعود لبعض المشايخ المتغطرسين والدخلاء على أصالة العراق وتأريخه العريق ممن يتباهون بالسلطة والقوه والسلاح المُنفلت، والبعض الآخر الذي يعاني هزالاً وخللاً في قيادته وشخصيته، لذلك لا يقدر أن يدير شؤون القبيلة والعشيرة بحكمة وسيطرة فينفلت من بين يديه زمام الأمور، إضافة الى أن بعض العشائر تقوي عزمها بأبنائها في الحكومة ومنهم نواب برلمان ومحافظات، الكلام كثير والمصائب الدموية أكثر ولن يتوقف هذا الاستهتار إلاّ من خلال وضع حد من الحكومة المركزية بالتعاون مع كبار الشيوخ والحكماء لفرض سلطة القانون على الجميع.”
سلطة وموروث
“حينما أُلغي قانون العشائر في أواخر الخمسينيات، أصبحت العشيرة بموجبه مجرد بنية اجتماعية تؤدي واجباتها بصفتها نسقاً مجتمعياً، لكن بعد سقوط النظام عادت العشيرة إلى المشهد العراقي بقوة سلطوية ضاربة”.. هو التفكيك الأنثروبولوجي الذي اعتمده الباحث عباس عبد الحسين بتتبعِ جذور المراحل التاريخية التي خاضتها العشيرة ما بين خبوة وانتعاش، قائلاً:
“استطاعت العشيرة بعد التغيير أن تعيد بنيتها السياسية تدريجياً، لكن بصيغة سلطوية، لا بالصيغة الأصلية للعشيرة التقليدية، إذ ضاعت سنن عشائرية عدة وارتقى المنبر العشائري شيوخ متطفلون لا يفقهون كثيراً بأصول العشائر، فأصبح النزاع ينشب في أية لحظة ولأي سبب، وتحولت الدكة العشائرية إلى ثقافة شفاهية يرددها الكثيرون وتتناقلها الأجيال استسهالاً لأذية الآخرين، إضافة لجعلها منبراً جديداً من منابر الثراء المأخوذ من جلود الفقراء غير المشروع لا إنسانياً ولا شرعياً، والحل هنا لا يمكن إدراجه ضمن أجندة جاهزة وإنما التفكيك يبدأ من بنية المجتمع الثقافية التي تقودها المنابر الدينية والاجتماعية والثقافية وقبلهما قانون الحكومة الحاضن لكل خطوة نحو الإصلاح.”