إبراهيم العبادي
يزدحم التاريخ السياسي للعراق بصور رجال من مشارب مختلفة، بعضهم خدمته السلطة فصار جزءاً من تاريخها، وبعضهم الآخر سار على طريق المعارضة، فاختط لنفسه تاريخاً مجيداً حافلاً بالبطولة الفردية والقيم الإنسانية الرائعة.
الشهيد عبد الصاحب دخيل، أحد أولئك الرجال الشجعان، الذي سلك طريقاً مغايراً لطريق الغالبية من المشتغلين في الحقل السياسي والعمل الحزبي.
في عام 1930، رأى عبد الصاحب دخيل النور في النجف، وفي عام 1973 أسلم الروح لبارئها في زنزانة من زنازين الأمن العامة في بغداد، مقتولاً بسياط الجلادين، بعد حفلات تعذيب هستيرية استمرت عامين، إذ اعتقل في خريف عام 1971، يومها كان يتحدى ضباط الأمن العامة بأن صدره يحتفظ بسجل تنظيمات حزب الدعوة الإسلامية، لكنهم لن يظفروا منه باعتراف واحد يبوح به عن أسرار ذلك التنظيم السري، أو أن يورد اسماً من أسماء الدعاة الذين كانوا مرتبطين به تنظيمياً.
كل معاصريه يشهدون له بأنه كان رجل المهمات الأصعب، فقد تحمل المسؤولية القيادية متسلحاً بشخصية عصامية ذات أخلاقيات عالية، وعقل هادئ رزين، وبناء عقائدي صلب.
التحق عبد الصاحب دخيل بحزب الدعوة الإسلامية بعد عام من تأسيسه، كان ذلك قبيل نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم، شاب متحمس يحمل فكراً تغييرياً، وطاقة عمل هائلة، وإرادة كفاح لا تتزعزع، فقد هاله ما كان يجري في العراق والمنطقة العربية من تخلف سياسي واجتماعي، وصراعات حزبية بين أفراد وجماعات اختطت لنفسها فكراً ومنهجاً يراه الدخيل أنه فكر طارئ غريب وعقائد فاسدة وآيديولوجيات مستوردة.
كان الوعي السياسي يومها مستلباً بين تيارات قومية وماركسية وتقليدية، تتقاتل على السلطة، وتتزاحم على صولجانها، البؤرة المركزية في تفكير الدخيل كانت أن هؤلاء ضحايا مشاريع لم يجدوا غيرها سبيلاً للعمل السياسي والاجتماعي، فهي البضاعة السياسية المعروضة يومذاك. أما هو فكان يعتقد أنه وجد المشروع الأصيل الذي ينتمي لدين وتراث وقيم وأخلاق البيئة المحلية العراقية، وهي بيئة إسلامية هجرها الشباب، لأنهم لم يجدوا من يفكر بها ويدعو إليها، ويحسن ترويجها وتسويقها.
يوم عثر على ذلك الطريق سلكه بإرادة ووعي، فصار من قادة الطريق الثالث، طريق العودة إلى الذات، كما يسميه الراحل علي شريعتي. كان عبد الصاحب دخيل تاجراً في شورجة بغداد، يحمل همّاً كبيراً، همّ التغيير على قاعدة التفكير الإسلامي، لم يفتّ في عضده ما وجده من بيئة تقليدية محافظة، وحياة سياسية مهترئة، تفتقد إلى أخلاقيات العمل المخلص لإنقاذ البلاد من موجات العنف والصراع على السلطة، والتبعية للمشروع الاستعماري الغربي. كان يتبنى مشروعاً إسلامياً يفضي إلى الحل، يومها كان الصراع على أشده بين المشاريع السياسية وأتباعها، وصل حد التقاتل بالسكاكين في شوارع العراق.
لم تثنه وعورة الطريق، ولا مشقات الحياة وانشغالاتها، من أن يمارس دوراً تغييرياً جعله يواصل الليل بالنهار، مهموماً بتعبيد الطريق الذي سلكه، عاملاً على اجتذاب الشباب بهدوء وحذر، وبرنامج ثقيل التكاليف والمسؤوليات.
حدثني أحد أساتذتنا -عافاه الله – بأن الشهيد عبد الصاحب دخيل كان يستقل الحافلات من بغداد إلى البصرة، مستثمرا وقت الرحلة لكسب المؤيدين الجدد للحزب، ولكي يحافظ على موعد الاجتماع الذي يشرف عليه ويخطط له ويقوده، موزعاً المهام والمسؤوليات، دون أن يشغله ذلك عن صرامته الأخلاقية وبرنامجه العبادي وعلاقاته الاجتماعية الواسعة، فقد جعل العراق بأسره ساحة لعمله، وما بين علاقاته الوثيقة بعلماء النجف الكبار، ولاسيما المرجعية الدينية، وعلاقاته التنظيمية في صفوف الدعوة الإسلامية، وانشغالاته الاجتماعية، جسّد الدخيل مفهوم إدارة الوقت، وتحويل كل فرصة إلى هدف قائم بذاته، شعاره، آنذاك، الوعي والتغيير، وبناء الوعي بالأزمة الاجتماعية -الفكرية -السياسية، وتحديد مسارات الخروج منها، وفقاً للمنهج الذي آمن به وسلكه عن وعي وطيب خاطر.
كان دؤوباً في عمله، كأنه يعيد بناء الإسلام كما لو كان في سني البعثة النبوية، مبشراً ونذيراً وداعية وقائداً وناشطاً في العمل الخيري والإنساني. يتحدث مجايلوه عن صفحات نبيلة من أخلاقياته وإنسانيته وحرصه وذوبانه في طريق الحق. لم يكن متعصباً وأحادياً في سلوكه الاجتماعي، فقد نسج علاقات اجتماعية وإنسانية مع عراقيين كثر من مذاهب وملل وديانات واتجاهات مختلفة، ساعياً إلى التقارب في الأهداف والمواقف والمشاعر، يحدوه في ذلك هدف نبيل يتمثل في بناء عراق حر مزدهر لا يعيش فيه العراقيون بتناحر وصدام وكراهية وبغضاء.
كان يسعى جاهداً لبناء دولة (إسلامية) تقودها أخلاقيات السماء، ويجسد قيمها رجال نذروا أنفسهم للتضحيات، سمواً على طريق العقيدة والشريعة السمحاء. وقد تأبط هذا الهدف همّاً ومسؤولية، معتقداً أن الكفاح على هذا الطريق هو الشرف الأسمى، والتكليف الأغلى. ولا غرو بعد ذلك أن يكون هدفاً لسلطة القمع والاستبداد، فقد دشنت سلطة البعث معاركها ضد العراقيين باستهداف رجالات الصف الأول من الحركات السياسية والقوى الاجتماعية والرموز الدينية، فكان -أبو عصام -أحد ضحاياها العظماء، فقد مضى شهيداً يصارع بقيمِهِ الكبيرة نذالة السلطات الهمجية وأساليبها الدموية، لكنه كتب اسمه في لوح الرجال الأفذاذ، الذين دافعوا عن كرامة وحرية هذا الشعب وحلمه الكبير في دولة كريمة.