سمير ناصر/
في المهجر.. وفي بلاد الغربة، وبعيداً عن البلد الأم، ينتابك شعور بالإحباط والتأمل والترقب، وأحياناً بالخوف من المستقبل المجهول الذي يواجهك في بداية مشوارك الطويل وحياتك الجديدة التي لم تألفها سابقاً، ولم تخض تجربتها الصعبة في رسم الاتجاه الصحيح الذي اتخذته لنفسك لتنعم بالحياة الوردية وبالمستقبل الموعود لك ولعائلتك، وبالتالي ومن أجل أن يتحقق حلمك الذي يراودك في تأسيس الكيان والوجود الذي قد يصعب منالهما في الوهلة الأولى، تكون أنت في دوامة من التفكير العميق مع نفسك للتخلص من هذا المأزق الكبير والطريق المظلم والمطبات والعراقيل العميقة، ولكن! وبعد الاندماج بالمجتمع المحيط بك، والاستفادة من خبرات الآخرين، واكتساب المهارة السريعة، وتعليم اللغة، والتدريب على الأساسيات ومقومات الحياة الأخرى، ستجعل منك إنساناً جديداً قادراً على تخطي المشاكل والصعاب، من خلال العمل الجاد والعطاء المثمر والتفكير الناضج والإبداع المتواصل.
العراقيون في السويد، وخصوصاً الشباب منهم، استطاعوا أن يزيحوا كل هذه العقبات، وتجاوزوا كل مراحل الخوف والترقب من خلال الجهود المضنية في الاندماج السريع بالمجتمع السويدي، وتحقيق نتائج طيبة ومرضية في مجال الدراسة والمواظبة المستمرة لتعلم اللغة السويدية، وممارسة النطق السليم من خلال التدريب العملي والنظري في مفاصل الحياة اليومية كافة التي تأقلموا عليها هم وعوائلهم، فيما تحقق من خلال هذا الاندماج سرعة الحصول على الوظائف والمهن الحرة الأخرى وتسنم المناصب والمسؤوليات الرئيسة والمهمة، وهي بالتالي ستعينهم على تحقيق المعيشة اللائقة بهم كعراقيين أولاً في حفظ كرامتهم، ولإزاحة همهم الوحيد وهو العمل بشرف وأمانة وإخلاص لتحقيق الرزق الحلال بعد بذل الجهود الاستثنائية خلال أوقات دوامهم الرسمي، وعكس مهاراتهم وإمكانياتهم وخبراتهم في عملهم الدؤوب وعطائهم المخلص والنبيل.
هناك أعداد كبيرة من العراقيين من الذين حصلوا على العمل في الدوائر السويدية بخبرتهم العالية وبذكائهم الخارق وبحساباتهم البعيدة وبنظرتهم الثاقبة، واختيار الأعمال التي تليق بهم وبشهاداتهم الجامعية التي حصلوا عليها في العراق، والتي صقلوها بالمعلومات والخبرات السويدية لتؤهلهم للحصول على هذه الوظائف في الدوائر والأماكن المتميزة والمهمة في كافة المرافق الحيوية في دولة السويد، كالأطباء والصيادلة والمهندسين والمحامين والصحفيين والإعلاميين وحتى في البرلمان السويدي، كما استطاع البعض من العراقيين اقتحام سوح العمل في الدوائر والمعامل والشركات الخدمية السويدية والمهن الرئيسة التي تشكل عصب الحياة في المجتمع السويدي، كسائقي الباصات والقطارات، ومصلّحي الطائرات وسائقي الأجرة والعاملين في مجال التربية والتعليم كمعلمين ومدرسين وكمرشدين لرياض الأطفال، فضلاً عن ممارسة مهنة التمريض في المستشفيات، وكذلك في دوائر العقارات السويدية والضرائب، إضافة الى المهن الأخرى كالمطاعم العراقية والأكشاك لبيع المرطبات والمعجنات، والصاغة والحلاقين ومصلحي التلفزيونات والهواتف والكمبيوترات، فضلا عن إنشاء المحال الصغيرة لبيع الفواكه والخضروات وأيضاً المتاجر الخاصة بالملابس القديمة والجديدة، والأسواق التي توفر الحاجيات والمستلزمات العراقية كافة.
من خلال هذا التحقيق الموسع استطلعت (الشبكة) آراء عدد من العراقيين الموجودين في دولة السويد من الذين استطاعوا الحصول على الوظائف المختلفة والعاملين في الأعمال الحرة، والحديث عن المعاناة التي واجهتهم خلال الأيام والأشهر الأولى بعد وصولهم للسويد، والمخاوف التي رافقتهم لعدم معرفتهم اللغة السويدية في بادئ الأمر، وصعوبة الاندماج مع المجتمع السويدي، إضافة الى الحديث عن كيفية التغلب على كل هذه المعوقات، ومواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة والقضاء على البطالة من خلال الارادة والتصميم والعزيمة والإصرار والانفتاح على المجتمع السويدي وتبادل الخبرات والمنفعة، ما جعلهم يشعرون بالحياة والحيوية والفعل الإيجابي الناجح والمفيد.
إنسانية مهنة التمريض
تقول إسراء زهير جليل، التي تعمل في مجال (التمريض) و أم لثلاثة أولاد: حينما وصلت إلى السويد كانت تراودني مخاوف واضطرابات غريبة، إذ أن هذا المجتمع جديد علينا، وكنا نتخوف أيضاً من الاختلاط بالناس كوننا لا نعرف أن نتكلم معهم باللغة السويدية. وحينما تكون لدينا مراجعات لبعض الدوائر الحكومية، كنا نحتاج هنا الى مترجم للغة العربية لكي يقدم لنا المساعدة في الحصول على مطالبنا وأسئلتنا واستفساراتنا، حيث أن تقاليد المجتمع السويدي تختلف تماماً عن العادات والتقاليد العراقية، وأضافت: أيضاً في الفترة التي تلت وصولنا الى السويد وبعد اللقاءات والاجتماعات المتواصلة مع الأهل والأقرباء ومع بعض الأشخاص السويديين استطعنا التغلب على مشكلة اللغة، وخلال ستة أشهر من الدراسة المستفيضة استطعت أيضاً الدخول في المرحلة الإعدادية، وفيها كانت تراودني مهنة التمريض كونها مهنة إنسانية ونبيلة، وطلبت حينها من المسؤولين أن أعمل خلال فترة الصيف في الممارسة الفعلية لهذه المهنة التي تعتبر شاقة ومتعبة إلا أنها من جانب آخر تقدم خدمة كبيرة وإنسانية الى المرضى، وفعلاً تخرجت في هذا القسم وعملت فوراً في المستشفيات لرعاية المرضى الراقدين فيها وكان عمري آنذاك (20) عاماً، وقد أحببت هذه المهنة وأثبت فيها الجدارة العالية ما جعلني أحصل على تثبيت في هذه المهنة وأكون أحد الكوادر المهمة في عملي، وهنا يعود الفضل في كل هذا الى والدتي التي شجعتني على العمل والدراسة والاعتماد على نفسي في كل المجالات. وأشارت إلى أنها كانت تحتاج في الوهلة الأولى من يترجم لها اللغة السويدية، ولكنها استطاعت الآن أن تقوم هي بالترجمة من السويدية الى العربية لمن يحتاج الى اللغة من المرضى داخل المستشفى خلال دوامها الرسمي كونها تتقن اللغتين العربية والسويدية، مؤكدة أنها الآن متزوجة ولديها ثلاثة أولاد ولم تبخل على دراستهم وتعليمهم العربية والسويدية كي لاينسوا لغتهم الأم كما تجعلهم يتفوقون في دراستهم بشكل متواصل ومستمر في السويد.
تخصص نادر وفريد في دوائر الكهرباء
فيما يقول حيدر حسين أحمد ( 35 عاماً)، مسؤول في إحدى دوائر الكهرباء في السويد: أتذكر في عام 1991 هاجرت عائلتي التي كانت تسكن في مدينة السماوة الى مخيم رفحاء في السعودية هرباً من بطش النظام السابق، وكان عمري حينها 11 عاماً، حيث كنت طالباً في المرحلة الابتدائية، وبعد أن قضينا أكثر من ثلاث سنوات في رفحاء وكانت من أصعب سنوات حياتنا من الجوانب الاجتماعية والخدمية والإنسانية، حيث كنا نسكن في الخيم وسط الصحراء القاحلة وبدون أي هدف للمستقبل القريب، مشيراً الى أنه بعد هذه المعاناة، ظهر اسمه ضمن القوائم التي ترحل الى دولة السويد، كونه يعتبر من القاصرين حيث كان عمره اقل من 18 عاماً ، ولكن كان برفقة عائلته المتكونة من شقيقه الأكبر وشقيقاته.
واستطرد قائلاً: بعد وصولنا الى السويد توفر السكن في إحدى الشقق التي وفرتها لنا دائرة الهجرة، كما بدأنا نتعلم اللغة السويدية في المدارس المخصصة للمهاجرين، وقد استطعت أن أتقن اللغة السويدية في فترة قصيرة جداً، وذلك من خلال الدراسة والتدريب حيث كنت أمارس لعبة كرة القدم مع شباب المنطقة من العراقيين والسويديين ومن جنسيات أخرى، ما ساعدني على امكانية الحديث بطلاقة وإتقان اللغة السويدية بشكل تدريجي وسليم. من جانب آخر كنت أساعد شقيقي الأكبر الذي كان يمتلك محلاً صغيراً لبيع المواد الغذائية، ما جعلني اختلط أكثر مع السويديين وغيرهم، وقتها كان حلمي أكبر من أن أجلس في هذا المحل وأقضي كل أوقاتي فيه، وبالتالي تنتهي حياتي ومستقبلي بهذا الشكل الضيق، ولهذا صممت على اكمال دراستي، والحمد لله فقد استطعت الدخول الى إحدى الكليات في السويد وكان تخصصي (تكنولوجيا الكهرباء) حيث أن هذا التخصص كان رغبتي وطموحي، وأيضاً هو نادر وفريد في السويد، وبعد التخرج حصلت فوراً على التعيين في إحدى الدوائر الخاصة بالكهرباء والتي تعتبر من الشركات الرئيسة والكبرى في السويد، حيث أنيط بي واجب مهم وحيوي وهو مسؤولية تشغيل الكهرباء، وأن هذا الواجب جعلني أكون سعيداً ومستقراً في حياتي في السويد، علما ان السويديين لا يمنحون للمهاجرين مهام كهذه مع مسؤوليات جسام، ولكن خبرتي الكبيرة في هذا الجانب جعلت المسؤولين السويديين يمنحوني الثقة العالية.
احتضان الطاقات العراقية المبدعة من قبل السويديين
أما إسراء إياد اسماعيل (27 عاماً)، ماجستير في المحاسبة والاقتصاد، فقد قالت: جئت الى السويد بصحبة والدي ووالدتي وكان عمري حينها ( 10 سنوات)، أي طالبة في المرحلة الابتدائية، وفي بداية دخولي الى السويد لم أعرف شيئاً من اللغة السويدية، وكانت الأجواء غريبة علينا ولم نألفها كوننا قد تحولنا من مجتمع شرقي الى مجتمع غربي، ولكن مع مرور الزمن واختلاطي مع الاطفال السويديين والعرب حينها استطعت وبسرعة أن أتقن اللغة كون الطفل يتعلم كل شيء بسهولة ويسر وخصوصاً اللغة، وكذلك ازدادت معلوماتي العامة من خلال اللعب المشترك مع الاطفال في المدرسة والمنطقة التي كنا نسكن فيها، مشيرة الى أن الدراسة قد استهوتها كثيراً وكانت تقضي كل أوقاتها بالمطالعة والدراسة المستفيضة ولم تترك وقتها ليذهب سدى ، وقد اصرت على تحقيق النجاح، وفعلا استطاعت ان تتخرج في المرحلة الثانوية وتدخل الجامعة فرع المحاسبة والاقتصاد، كما استطاعت ايضا تحقيق حلمها بالحصول على شهادة (الماجستير) في التخصص نفسه، لتكون بهذه المرحلة قد حققت أحلامها وطموحها، مؤكدة انها في الجامعة تعرفت على العديد من الاصدقاء والصديقات من جميع بلدان العالم ما ساعدها في الاطلاع على التخصصات الاخرى والاستفادة منها في حياتها اليومية.
وتضيف: بعد تخرجي وحصولي على الشهادة العليا لم أستطع الحصول على الوظيفة التي أرغب فيها ، ولكن وبعد فترة وجيزة ومن خلال تقديمي المعلومات الخاصة بي (السيرة الذاتية) من خلال الكمبيوتر، حصلت على وظيفة اعتبرتها من صميم تخصصي، في حين أن هناك أعداداً كبيرة من السويديين لم يحصلوا عليها.
وبهذا يكون العراقيون قد حققوا طفرة كبيرة في حصة الوظائف المرموقة في السويد ممن يحملون الشهادات العليا، موضحة أن الاندماج مع المجتمع السويدي ضروري جداً لتحقيق أهدافنا وطموحاتنا وأحلامنا، وأن المجتمع السويدي يحتضن الطاقات المبدعة ويشجعها ويدعمها وخصوصا مع الجالية العراقية التي أخذت حصة الأسد من الاهتمام والرعاية.