ذوالفقار يوسف /
ارتبطت صناعة القوارب في العراق ارتباطاً وثيقاً بمياه كل من نهري دجلة والفرات، حيث تعتبر الوسيلة الاولى لتنقل سكان العراق قبل خمسة آلاف عام قبل الميلاد، فكثرة المياه في هذين النهرين جعلت الزوارق وسائط لصيد الأسماك والطيور والتنقل بين ضفاف الأنهار او التنزه بواسطتها.
لكن انحسار المياه في الآونة الاخيرة، جعل هذه الحرفة التأريخية تنجرف نحو هاوية الاندثار، إلا أن البعض من صنّاعها يقاومون اضمحلال هذه الصناعة التراثية، رغم عددهم الذي بات ينحسر يوماً بعد آخر.
كلكامش ونوح
تختلف الزوارق في أشكالها وأحجامها، وايضاً في استعمالاتها والمواد المصنوعة منها، إلا أن هناك حضارة كاملة بدأت مع بداية تأريخ العراق، والأحداث التي انحدرت منها هذه الحرفة.
فقد أظهرت النصوص التوراتية، والعديد من النقوش السومرية التي وجدت منحوتة على الرقم الطينية، أن المشحوف كان إحدى وسائل تنقل الملك كلكامش في رحلته عند بحثه عن الخلود، وأنه قد صنع قارباً من قصب البردي وطلاه بالقار، وهو نوع من الزوارق يستخدمه سكنة الأهوار في محافظات العراق الجنوبية الى حد الآن. أما النوع الآخر من الزوارق الكبيرة، ومنه سفينة نبي الله نوح، الذي أمره الله بأن يصنعها لتحمل من كل زوجين اثنين للنجاة من الطوفان العظيم، فقد أوضحت الرقم الطينية لكل من الحضارات السومرية والبابلية، وايضاً الكتب السماوية، وتحدثت عن رسوّها في مدينة الجودي، إحدى قرى الموصل القديمة.
البلّامة
توارث العديد من الأجيال حرفة صناعة الزوارق، لما لها من أهمية كبيرة في حياة الناس ومتطلبات معيشتهم، خصوصاً في المناطق القريبة من نهري دجلة والفرات، فقد تجد أغلب محال الحرفيين في هذا المجال قرب الأنهار، وكان الأوائل في صناعة الزوارق من المناطق الجنوبية والوسطى في البلد، كمحافظات ميسان والبصرة والناصرية وبابل على وجه الخصوص.
يحدثنا ضمن هذا الإطار الحرفي أحمد نوري(55 عاماً) فيقول”لقد توارثنا هذه الحرفة عن آبائنا وأجدادنا البلّامة الأوائل، وقد امتزجت مع دمائنا، لما فيها من موروث عراقي، فمنطقة الشواكة في بغداد هي المكان الوحيد في العاصمة التي ماتزال تتمسك بهذه الحرفة، رغم الحواجز التي تواجهنا، كقلّة منسوب مياه نهري دجلة والفرات بسبب الأزمات، والحروب المتعاقبة، وايضاً انعدام المواد الأولية في صناعة القوارب، كالقار(الجير) الذي يتواجد في المناطق الغربية من البلد، وخصوصاُ في محافظة الأنبار التي لاحتها يد الإرهاب في الآونة الأخيرة.
مضيفاً أن”مسيرنا لن ينتهي في هذه الصناعة، غير أن قلة الطلب على الزوارق الخشبية جعلتنا مجبرين على تغيير مسارنا نحو المستورد، وأن نقوم باستبدال الخشب بمادة الفايبر كلاس، والتي تكون فيها صناعة الزوارق أسهل وأرخص سعراً بالنسبة لصناعتها بالخشب، عازياً ذلك الى أن وجود الخشب الآن بات أمراً شبه مستحيل بسبب أسعاره الباهظة وقلة الطلب عليه.
عالم جديد
اتخذ سكان الأهوار، وغيرهم من سكنة القرى والمدن القريبة من الأنهر، الزوارق الخشبية في عملهم ونزهاتهم ونقل حيواناتهم الى يومنا هذا، ولم يتغير هذا الأمر منذ آلاف السنين، إلا أن التغيير الذي حصل هو في المواد المصنوعة منها هذه الزوارق.
عدنان ابراهيم(50 عاماً) احد صنّاع الزوارق يوضح لنا الانتقالة في صناعة الزوارق وفي قلبه حسرة كبيرة على ذكريات تلاشت مع الزمن فيقول”إن هذه الحرفة قد تغيرت تغييراً جذرياً بسبب انعدام الخشب، فبعدما كانت تصنع من خشب الأرز منذ العصور القديمة، عندما كان السومريون يجلبونه من لبنان، ومن ثم يأتي خشب التوت وخشب الغار في صناعة المسامير المثبتة للألواح الخشبية، وبعد ذلك طلاؤه بمادة القار التي يكون مصدرها مدينة هيت في محافظة الأنبار، أما الآن فقد اقتصرت صناعة الزوارق الخشبية على محافظات العراق الجنوبية، كمحافظات البصرة وبابل والناصرية وميسان.
يضيف ابراهيم أن محافظة بغداد دخلت عالماً جديداً في صناعة الزوارق، حيث أصبحت مادة الفايبر الكلاس بديلاً عن الخشب في هذه الصناعة، يعزى ذلك الى سهولة العمل وسرعة إتمامه عند صناعة الزورق من ألواح هذه المادة، ومن ثم معالجته بواسطة المحاليل الكيميائية بدلاً من القار، حتى لاتتسرب المياه اليه، بينما يوضح لنا أنه عند صناعة الزورق بواسطة الخشب، قد تصل مدة عمل زورق واحد الى الشهرين، وبتكاليف عالية، مضيفاً بأن الفايبر كلاس مقاوم للصدأ والأملاح والبكتيريا التي تقوم بإتلاف الزوارق الخشبية، أما من ناحية الوزن فالخشب أثقل وزناً، بسبب تجانس الماء مع الخشب، إلا أن صائدي الأسماك يفضلون هذا النوع عن غيره، لبطء حركته في المياه وعدم إخافة الأسماك عند الصيد.
انعدام الفن
لكل حرفة فنانوها ومصمموها، خصوصاً الحرف اليدوية التي تتطلب الهندسة في التصميم والابتكار، أما الآن فقد انعدم الفن والتصميم في صناعة القوارب.
الحاج سلمان بكة (70عاماً) امتهن هذه الحرفة لأكثر من خمسين عاماً، يحدثنا ويقول”لقد كانت صناعة الزوارق، وعلى كافة أشكالها وأنواعها، من الفنون الشعبية القديمة، ولايمكن لأي كان أن يتقنها في مدة قصيرة، فقد تعلمتها من والدي في مدينة الهوير في محافظة البصرة، وقمنا آنذاك بصناعة العديد من الزوارق قبل ان ننتقل الى العاصمة.”
موضحاً “أن العديد من الحرفيين الآن اقتصرت صناعتهم على شكل واحد او اثنين من أنواع الزوارق، وجعل القالب أساس عملهم والذي يكون مصنوعاً من مادة الفايبر كلاس، وبهذا ينعدم الفن والابتكار والتصميم في هذه الحرفة بعدما كنا نقوم بصناعة الكثير من الزوارق المتعددة المهام، كالـ “المويطير” الذي يستخدم في صيد الطيور ويتسع لشخص واحد وبندقيته، والمشحوف الذي يستخدمه سكان الأهوار في جلب الأعشاب لحيواناتهم والتنقل به، وايضاً هناك “الطرّادة” التي تستعمل في الأعراس والصيد حيث يكون خشبها خفيف الوزن، و”البلم” الذي ينقل الشلب، و”الكعدة” التي تستخدم لصيد السمك، واخيراً “العانية الشراعية” وهي سفينة كبيرة لنقل الحيوانات والصيد ايضاً، حيث تسير هذه الزوارق بواسطة عصا كبيرة الحجم وطويلة من قصب البردي تخترق مياه الأهوار والأنهر، والتي تكون موادها الأولية من أخشاب التوت الجاوي والسدر المقاومة للماء، وملحقاتها التي تنمو في الأهوار كقصب البردي.