عاشــــــــوراء بغـــــداد

ريا عاصي
لحمة اجتماعية يتجمع فيها الكبار والصغار، النساء والرجال، باختلاف مشاربهم في عادات وتقاليد وموروثات تميزهم عن غيرهم من العواصم والبلدان.
للمُدُن أيام تميزها عن غيرها، ولبغداد نصيبها مما يميزها عن بقية عواصم العالم العربي الإسلامي أياما ومناسبات، ومنها عاشوراء. فبالرغم من أن عواصم عربية أخرى تحزن في عاشوراء، مثل القاهرة والشام وبيروت والمنامة، إلا أن عاشوراء بغداد له طعم وطقوس وخصوصية أكبر.

يعتقد المؤرخون أن بغداد من أوائل العواصم الإسلامية التي أقامت مجالس تأبين وعزاء للإمام الحسين عليه السلام. كانت المراسم لا تقتصر على بيوتات الشيعة في بغداد، بل كانت تقفل الأسواق وترتفع الرايات وتصطبغ المدينة بالسواد حزناً على كبير المصاب، واستمرت هذه الطقوس لمئات السنين، في البيوت والمجالس والأسواق، تارة بشكل علني، وتارة أخرى بشكل سري، بسبب منع السلطات لهذه المناسبات، وصولاً إلى تاريخنا الحديث، بعد أن منع الدكتاتور عام 1977 الناس من إقامة شعائر الحزن ومواكب التأبين أو مسيرات الناس في موسم عاشوراء وغيره من المواسم الدينية سواء حزناً أو فرحاً، وعاقب وسجن القائمين على إحيائها، نهج استمر حتى سقوط الطاغية عام 2003.
حزن بغداد
ما يميز بغداد في حزنها عن بقية عواصم العالم الإسلامي في هذا الشهر عادات عدة، إذ ترتفع الاعلام والرايات فوق سطوح المنازل والحسينيات عند الأول من محرم في كل عام هجري، ويرتدي الناس السواد إعلاناً منهم الحداد على ما أصاب آل البيت وحفيد الرسول الحسين عليه السلام في معركة كربلاء من ظلم وبلاء.
تقام مراسم العزاء في الحسينيات والمجالس والمنازل يوماً بعد آخر، تتلى فيها قصائد في حب الحسين وثورته ضد الظلم، والمواعظ الدينية والحياتية والدروس والعبر من سيرة الحسين وآل البيت الأطهار، ثم تختم بالدعاء لتعجيل فرج الإمام المهدي عليه السلام، وفك كرب المؤمنين في كل الأصقاع، والدعاء للأمة الإسلامية بالخير والبركة.
يقول السيد (جاسم الشيخلي -85 عاماً- متقاعد)، مستذكرا طفولته “في أربعينيات القرن المنصرم، كانت الأحياء البغدادية كما اليوم تتشارك المصاب والحزن معاً في تذكرها لمسيرة الحسين عليه السلام، وكانت المنازل التي تقيم مجالس للعزاء وتفرق الطعام للناس هي التي يرتفع فوق سطوحها العلم والبيرق، لذا كنا نعرف أي البيوت سيقدم الطعام اليوم من خلال رفعهم العلم فوق سطح الدار بعد صلاة الفجر، لكن في أيامنا هذه اعتمد على حفيدي في إخباري أي المجالس والحسينيات ستقيم مجلساً، واسم الرادود الذي سيقرأ وذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعي.”
بالإضافة إلى الأعلام ومجالس العزاء ولبس السواد وتفريق الطعام، فإن ما يميز بغداد عن العواصم الأخرى أن أبناءها يقيمون العديد من المواكب والسرادقات التي يوزعون داخلها الماء والكعك والشاي، استذكاراً منهم لفعلة يزيد الشنعاء حين حاصر مخيم آل البيت وقطع عنهم الماء وجعلهم عطاشى لعشرة أيام متتالية.
شعور بالغبطة
(عذراء – أم عبد الله)، تقوم بتوزيع الماء والشاي والكعك في موكب تقيمه كل عام في أزقة الكرادة باسم والدها الشهيد عبد الزهرة العامري، الذي استشهد في تفجير إرهابي جبان في حسينية الرسول في مدينة الشعلة في التاسع من محرم (ليلة الطبك) 2017 وتهدي ثوابه لوالدها. يشاركها في الموكب ثلاثة من أولادها.
تستذكر أم عبد الله وتقول: “على الرغم من حزني وألمي على أبي، وحزني الأعظم على أبي عبد الله عليه السلام، إلا أنني في داخلي أشعر بالغبطة بأني تمكنت من استكمال مسيرة والدي وجدي رحمهما الله، فكان والدي يخبرني دوماً عن مجلس جدي الكبير الذي كانت تنتهي في داره تشابيه العاشر وتذبح الذبائح وتقام ليلة (المحيا) فيه، وانقطعت هذه العادة في ظل الحكم الجائر أيام الدكتاتور، وبعد عام 2003 أقام أبي موكباً يقدم فيه الماء والشاي والكعك للسائرين إلى كربلاء. واليوم يقف أبنائي الثلاثة لاستكمال مسيرة والدي وجدي، وأحمد الله أننا اليوم نستطيع أن نتشارك في أحزاننا وأفراحنا معاً دون الخوف من الدكتاتور أو الإرهاب.”
تضيف أم عبد الله: “يقولون إن الحزن حين المشاركة يصغر، وأن الفرح عند المشاركة يكبر، والغبطة في داخلي تكبر كلما ترحم أحدهم وهو يشرب الماء على والدي وأهلي، وأشعر أني امتداد لفعل الخير من خلال مشاركة أبنائي لي.”
السيدة (أمينة أحمد، خمسينية، باحثة من مصر) تقول: “خلال العقد الأخير تنقلت في شهر محرم بين عواصم عربية وإسلامية عدة من أجل بحثي، وعدت إلى بغداد مرتين. ما يميز بغداد الكرم والتنوع، ففي مصر تقتصر مراسم عاشوراء على مجلس عزاء عند مقام سيدنا الحسين، ومن ثم توزيع الحمص والعدس الغامق، أما في دمشق عند السيدة زينب فإن غالبية ما يوزع من طعام هو من بيوت عراقية وزوار عراقيين، والقليل منه من دول أخرى، أما في الباكستان فتتنوع الأكلات، لكنهم لا يجودون كما العراق، بالفعل هذا التنوع بين تقديم صنوف طعام عدة وإقامة مسرح الفرجة (التشابيه)، وتمثيل ليلة الوحشة في العاشر من محرم يجعل من بغداد والمحافظات العراقية الأخرى أغنى وأكرم من غيرها من المدن.”
أيام تسبق عاشوراء
يخصص البغداديون اليوم السادس من محرم لعرس القاسم، ويقومون باختيار فتاة عذراء جميلة لم تتزوج أو تخطب يلبسونها بدلة خضراء، ويزينونها، ويضعون أمامها صينية القاسم التي تحتوي على صحن الحناء وصحون من السكريات والمكسرات والبياضات وشموع ونبتة الآس، ثم ينشدون أحد أكثر الأناشيد حزناً حين يرددون (يمه ذكريني من تمر زفة شباب). في هذا اليوم يندب العديد من النسوة مصاب آل البيت ومصاب العراقيين أجمع، إذ لا يمر عام على العراق دون أن يزف العديد من الشباب كشهداء، إما دفاعاً عن مدنهم، أو ضحايا إرهاب ودكتاتوريات. تفرق في اليوم السادس صحون من (الزردة) وهو طبق حلو يعد من الرز والحليب والزعفران والسكر ويزين بالقرفة، وتنذر غالبية الأمهات لزواج بناتهن وأبنائهن، ومن يتحقق مرادها تفرق الزردة وتقيم عرس القاسم في منزلها.
أما اليوم السابع فهو لأبي الفضل العباس، (السقاء)، وهو أحد الألقاب التي يطلقها الناعون عنه، كما يدعونه بحامل لواء الحسين، الذي يحكى عنه في المرويات أنه حاول الوصول إلى الماء ليسقي آل البيت العطاشى، لكن جنود يزيد قطعوا يديه وبقروا قربة الماء، وكان كعمّه جعفر الطيار حاملاً للواء أخيه الحسين عليهم السلام.
لذلك تقوم النسوة في هذا اليوم بتفريق (خبز العباس)، الذي هو عبارة عن خبز باللحمة، او خبز خالص مع مجموعة من الخضار، عادة ما تنذره النساء للتخلص من كرب ما. ويفرق خبز العباس في الصباح والعصر أو عند ختام (الملاية) لـ (القراية)، ويوزع معه الماء.
التشابيه ليلة (المحيا)
اليوم التاسع يسمى (المحيا)، أو ليلة (الطبك)، وهي الليلة التي يقوم الأهالي فيها بتمثيل الواقعة (واقعة الطف) بتطوع أبنائهم من الصبية والشباب لأداء أدوار الشخصيات. يحدثنا السيد (عبد الكريم أبو حسين – خادم الحسين)، هكذا يحب أن يكنى، بأنه في كل عام، وقبل محرم يفتح باب التطوع في الحسينية من أجل أداء التشابيه في الحي، ويقوم هو وأفراد من الحسينية بتوزيع الأدوار واختيار الرادود الذي سيقوم بإلقاء الواقعة أثناء أداء الشباب لتمثيل الواقعة دون حوار. يقول: “أكبر مشكلة تواجهنا هي من سيؤدي دور (الشمر)، لأن أكثر الشباب يرفضون أداء دور جنود جيش يزيد، وبعد أن نقسم الأدوار والفرق، يتطوع بعضهم من أجل صنع الأزياء. وفي كل عام نحصل على كمية من الدروع والسيوف والخوذ التي يتبرك الحدادون بصناعتها ليوم التشابيه. كما يقوم العديد من النسوة والرجال بخياطة الأزياء وصناعة الدروع الجلدية، هذه الورش غالبيتها تعمل بالبركة وحب خدمة آل البيت.”
بعض العوائل تطبخ على الحطب (الهريسة)، وهي أكلة عراقية تصنع من الحبية (حبوب الحنطة) واللحم، ويفرقع فوقها السمن الحيواني والقرفة والسكر، وتوزع عند الفجر في عاشوراء كإفطار صباحي، أما (التمن والقيمة)، طبق الرز ومرقة القيمة المصنوعة من اللحم والحمص والطماطم وخلطة البهارات الخاصة، فهي تطبخ على الحطب وتوزع عند الظهيرة كغداء.
غالبية العائلات البغدادية تقسم الأيام بينها، والصحون والموائد حسب النذور والمعتقدات، وبعضهم يشترك في ذبيحة واحدة أو أكثر حسب الإمكانية، وجرت العادة أن تقوم النساء بأخذ صحن من بيت أحد السادة المطعمين بنية النذر، وحين تحقق مرادها تقوم بالمساهمة في العام المقبل بالطبخ وبإضافة مواد.
السيدة (صبيحة أم فضل – ستون عاماً) حدثتني تقول: “نشأت في بيت خليط بين مذهبين، وبالرغم من ذلك فأمي تطبخ الهريسة كل عام في اليوم التاسع، ونحضر مجلس عزاء جارتنا النجفية في كل عام. صادف أني لم أرزق بطفل في سنين زواجي الأولى، وفي يوم العباس أبي الفضل عليه السلام أسهمت في خبز عدد لا يحصى من خبز العروك مع جارتي، ورزقت بعدها بالفضل، ومن يومها وأنا أخبز سنوياً في يوم ساقي العطاشى من كل عام مع أبنائي وبناتي وأحفادي.”
الحاج (مهدي أبو يسر- 94 عاماً) حدثنا يقول: “تذكر الكتب والمرويات أن أول العزاءات على سيدنا الحسين أقيم في المدينة المنورة، فبعد عودة نساء آل البيت من رحلتهم إلى الشام، كانوا أول من اقام المآتم والمراثي على الإمام الحسين عليه السلام، وقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: “نيحَ على الحسين بن علي عليه السلام سنةً كاملةً كلّ يوم وليلة، وثلاث سنين من اليوم الذي أُصيب فيه.”
وقد روي أنّ الكميت الأسدي دخل على أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام في الأيام البيض، واستأذن الإمام عليه السلام في إنشاد أبيات في أهل البيت عليهم السلام، فأذن له الإمام فأنشأ يقول:
“أضحكني الدهرُ وأبكاني
والدهرُ ذو صرفٍ وألوانِ
لتسعةٍ بالطفِّ قد غودروا
صاروا جميعاً رهنَ أكفانِ”
ثم يضيف: “وبغداد تشهد على إقامة التشابيه بشكل عفوي، تشترك فيها كل الأطياف من سكنتها على اختلاف مشاربهم، فالحسين ليس لملّة واحدة، بل هو ثورة حقيقية صادقة، والأيام تثبت لنا ذلك، فكل الكرب التي مرت على هذي البلاد لم تنسنا سيد الشهداء.”
سيرة الحسين
بقيت مسيرة الحسين عليه السلام حية حتى يومنا هذا، يتذكرها الجميع بأنه خرج ثائراً على الظلم والطغيان، فقد وصل مع أصحابه وأهله كربلاء، حيث حاصرهم فيها جيش يزيد بن معاوية وقطع عنهم الماء. وأثناء الحصار، نهض الحسين وأولاده وأخوه العباس وصحبهم إلى المعركة، الذين استشهدوا جميعاً، وفي اليوم العاشر نزل الحسين مع ابنه الرضيع (علي الأصغر) فقتلا بالأسهم، وبقي جسده الطاهر في أرض المعركة، ولاشتداد المرض على ابنه زين العابدين بقي في الخيمة فحافظ على نسل الحسين.
عند استشهاد الحسين، خرجت نساء آل البيت يحُمن حوله، عندها أتى الشمر فأبعد النساء وقطع رأس الحسين وعلّقه على الرمح، فيما أحرق جنود يزيد بن معاوية الخيم، وذبحوا الرجال، وسبوا النساء وساروا بهم في الصحراء. أما زين العابدين فقام بدفن الأجساد في كربلاء ومن ضمنها جسد والده الإمام حسين عليه السلام.
وحين وصول قافلة النساء إلى قصر يزيد بن معاوية، اعترضت السيّدة زينب وصرخت بأنهن حفيدات الرسول ولسن سبايا، لا يبعن ولا يشترين، وألقت خطابها الشهير الذي هزّ عرش يزيد، فأمر بإرسالهن إلى سوريا، ومن ثم إلى الحجاز.
في طريق المآب إلى الحجاز أصرّت السيدة زينب على العودة إلى كربلاء لتدفن رأس أخيها الحسين مع جسده، قبل أن تذهب إلى المدينة المنوّرة، وكان ذلك بالتزامن مع أربعينية أبي عبد الله، فأقيمت مجالس العزاء، ثمّ دخلت السيّدة زينب إلى المدينة وروت ما حصل معهم.