إياد عطية الخالدي/
تعيد ذكرى ثورة الرابع عشر من تموز الجدل العراقي المستعر بشأنها، وبينما يذهب أنصارها إلى الإشادة بنتائجها وما حققته للعراقيين، ولا سيما الفلاحين، من منجزات كبيرة أبرزها قانون الإصلاح الزراعي.
لكن فريقاً آخر يراها باكورة الحركات المسلحة التي أسست لحكم العسكر والانقلابات الدموية التي شهدها العراق وتسببت بوصول طغاة ودكتاتوريين إلى سدة الحكم.
يقود الحديث عن الثورة إلى أزمة ربط السلطة بالجيش، ويعيد التساؤل عن أسباب هيمنة العسكريين على السلطات وقيامهم بثورات ضد الحكومات، مستغلين دوافع الشعور بالظلم وتفشي الفساد والفقر وغياب العدالة الاجتماعية شعاراً لثوراتهم تلك، على الرغم من عدم تشكيكنا بأن تكون تلك الأهداف بالفعل قد مثلت دافعاً إضافياً لدى العسكر للقيام بالانقلابات العسكرية، لكن التجارب أثبتت أن الحماس الثوري المرتبط بهموم الناس سرعان ما يتبخر مع أول هتاف شعبوي يحول العسكري إلى دكتاتور.
القوة والسلطة
والواقع أن التاريخ العربي كان يربط دوماً السلطة بالقوة العسكرية، فالدولة الأموية نشأت بفعل القوة التي بناها الأمويون، وبالمقابل فقد سقط هؤلاء نتيجة القوة المعارضة التي بناها العباسيون، حتى انتهى العراق إلى سيطرة المغول، ثم إلى هيمنة متبادلة بين الفرس والأتراك قبل أن تحتل بريطانيا العراق وتنشئ الدولة العراقية الحديثة التي صار الجيش عمادها وركيزتها في فرض سلطتها على بلاد يمزقها صراع الهويات المختلفة.
بعد الاحتلال الأوروبي للدول العربية، نمت في هذه الدول حركات ذات نزعة تحررية لمواجهة الاستعمار ومن سمتهم بعملائه، ولاسيما في العراق وسوريا ومصر، وقاد هذه الحركات مثقفون ورجال دين أسسوا منظمات وأحزاباً قومية ويسارية وإسلامية، ولم يكن للعسكر دور أو إسهام في تأسيسها، كما لم يكن لهم أيضاً موقف واضح من الرفض الشعبي للواقع الذي كان الناس يكابدونه، حيث ينتشر الفساد ويسود الظلم السياسي والاجتماعي. وعلى الرغم من عملها الطويل، شعرت تلك القوى الناشطة بحاجتها إلى العسكر للوصول إلى السلطة عبر انقلاب عسكري، وسعت الأحزاب الطامحة في الوصول إلى سدة الحكومة بالحاجة إلى القوة لتحقيق طموحاتها. وبالمقابل فإن قادة الجيش شعروا بأهميتهم وكونهم رأس الحربة في عمل هذه الأحزاب لتحقيق أهدافها، وقد حدثت مزواجة سريعة بين طموح الضباط وطموح قادة الأحزاب في الوصول إلى سدة الحكم، ومن الطبيعي أن الضباط الكبار، بحكم نفوذهم وتراتبية وتنظيم الأفراد العسكريين الذين يقودونهم، مثلوا رأس الرمح بما سمي بالثورات، قد نظموا أولى محاولات الانقلاب على الحكم في العراق عبر حركة مايس 1941 بقيادة رشيد عالي الكيلاني، التي فشلت بعد أن دعمت بريطانيا احدى كفتي الجناحين المتصارعين على السلطة، فكانت حركة مايس أقرب إلى التمرد من الانقلاب العسكري. أما في مصر فقد نجح الانقلاب العسكري الذي دبر بقيادة الضابطين محمد نجيب وجمال عبد الناصر في إسقاط الحكم الملكي وتأسيس جمهورية مصر العربية، وكان هذا النجاح دافعاً قوياً للعسكر في عدد من الدول للانقلاب على أنظمتها الملكية.
من المهم الإشارة إلى أن الأحزاب في دول حديثة التأسيس كانت أيضاً تؤمن بفكرة القوة في الوصول إلى تحقيق أهدافها، ولم يكن بوسع قادتها التفكير بأن الإرادة الشعبية والرغبة في الخلاص من الأنظمة التي نصبتها دول استعمارية كافية للإطاحة بتلك الحكومات، ولاسيما أن هناك شعوراً سائداً بأن هذه الأنظمة والحكومات محمية من دول كبرى، لهذا استعانت كل الأحزاب بالعسكر وعملت على خلق تنظيمات حزبية داخل المؤسسة العسكرية لتكون أداتها في التغيير وإسقاط الحكومات.
تصفيات الانقلابيين
وليس عسيراً على المتابعين تفسير ظاهرة الانقلابات العسكرية السيئة السمعة في دولنا العربية، التي بدأت مع انقلاب عبد الناصر عام ١٩٥٢ في مصر مروراً بالانقلابات في العراق وسوريا، التي أسست لحكم دكتاتوري فردي في النهاية.
ويستذكر العديد من أعضاء الأحزاب كيف أن الأحزاب كانت تنقسم بفعل ارتباطاتها السرية مع أجنحة عسكرية، كما أن العديد منها لجأ إلى القوة والعنف قبل الوصول إلى سدة الحكم، كما فعل حزب البعث الذي خسر السلطة عام 1963 لصالح ضباط قوميين، لكنهم متحالفون مع جناح عسكري آخر.
وقد وضع المفكّر ”أموس برلموتر“ تفسيراً لسيطرة الجيش على السياسة، إذ يسمّي هذه الظاهرة بـ “دولة البيروتوريّة“، أي الدولة التي يكون فيها الجيش مصدر السلطة الشرعية، ويقدّم ثلاثة أنماط من حكم الصفوة العسكرية: الأقلية العسكريّة الأوتوقراطية، والأقلّية العسكرية الأوليغارشية، والنمط العسكري السلطوي.
وإذا كان العراقيون يشيدون بثورة الرابع عشر من تموز كونها أسقطت نظاماً ملكياً مستورداً من الخارج، لم يحقق للشعب العراقي العدالة وفرص التقدم والرخاء، واعتمد على مجموعات من الإقطاعيين تسببوا في ظلم اجتماعي كبير، مشيرين إلى أن ثورة الرابع عشر من تموز حققت الكثير للعراق على الرغم من قصر عمرها، وأن زعيمها عبد الكريم قاسم كان واحداً من أكثر القادة نزاهة في التاريخ. لكن هناك من يعتقد بأن جميع الانقلابات العسكرية قادت إلى وصول حكام طغاة انفردوا بمصير شعوبهم، ولم يحققوا الشعارات الكبيرة التي أعلنوها، وفشلوا تماماً في إيصال بلدانهم إلى مصاف الدول المتقدمة.
ثمن الطغيان
تأسست أنظمة الحكم التي أقامها العسكر على البطش والسيطرة بالقوة العسكرية والتنكيل بمن يعارضهم، ولا تزال دولنا ومجتمعاتنا تدفع ثمن طغيانهم واستفرادهم بالسلطة التي كانت تنتزع منهم أيضاً بانقلاب عسكري آخر، وهذا لا يبرئ الشعوب والمجتمعات من سلبيتها في صناعة الطغاة، عبر تقديسهم ورفعهم إلى درجات فوق درجات البشر بكثير.
وفي الواقع فإن ارتباط حياة الناس بالحكومة التي تهيمن على مقدرات الشعوب، ويجعلها تغني من يتقرب إليها وتفقر من تشاء، كان أحد الأسباب التي صنعت كاريزيما القائد الأوحد. لقد أصبح واضحاً أن المؤسّسة العسكرية، منذ ذوبان الحكم العثماني، باتت تمثل مصدراً من مصادر القوّة والسلطة في المجتمع، فكانت كل المحاولات لإحداث تغيير في البلاد لا يمكن أن تمر من دون دور رئيس للنخب العسكرية، ما مهد بالتالي لسيطرة الجيش على السلطة غالباً، التي تقترن بكاريزما مرتبطة بالدور البطولي لقائد الجيش أو المؤسّسة العسكرية بعامّة.
كاريزما القائد الأوحد
ويرتبط النموذج الكاريزمي – في شرعية الحكم- بالجيش، نظراً للظروف التي تسبق هذا النوع من الحكم، وبخاصة الحروب والأزمات التي يبرز فيها دور الجيش بعد الانتصار في الحرب، شأن حروب التحرير مثلاً. وقد لاحظ “ماكس فيبر”، في إشارة إلى الشكل القانوني لسيطرة القائد الكاريزمي أو المؤسّسة العسكرية، تحوّل هذا النوع من القيادة والشرعية إلى نمطٍ للسلطة القانونية وفق قواعد الروتين المقرَّرة.
لذا تتعدّد الأدوار السياسية للجيوش، فقد يكون الجيش بمثابة جماعة ضغط في صناعة القرارات، وقد يتعدّى هذا الدور نحو المساهمة الفاعلة في تحديد السياسات العامة للوطن، وفرض النظام الذي يراه هو الأمثل للوطن، وتغيير الحكومات، وقيادة الانقلاب على الحكومات، ولاسيما في المجتمعات التي لا تؤمن بالديمقراطية وبالحريات الأساسية للناس وحقهم في الحياة واختيار من يتولى قيادتهم..
إن تجربة الانقلابات العربية أثبتت أن لكل انقلابي آيديولوجيا يتستر خلفها للوصول إلى مبتغاه، وأن غالبية الانقلابيين كانوا يطيحون برفاقهم كي لا يقفوا أمام إرادتهم في بناء امبراطوريتهم، والأمثلة أكثر مما يمكن حصرها، ولعل العراقيين يستذكرون مشهد قاعة الخلد حينما صفّى صدام حسين شركاءه في آيديولوجية البعث التي صعد على سلالمها إلى سدة الحكم في العراق.
وفي كل الأحوال، تظل البلدان الهشّة، التي تغيب فيها العدالة الاجتماعية ويسودها الفساد، توفر أفضل مناخ للنزعة السلطوية العسكرية، حيث يتخلى الشعب عن الدفاع عن الأنظمة الديمقراطية، ويستسلم لدكتاتورية حكم العسكر، وقد يفضله كبديل عن الدولة الفوضوية الفاسدة.