آمنة عبد النبي- المانيا/
بطيءٌ هو الموت ومُرعب على طريقة داعش وله أشكال إجرامية أقلها الجلد والعضّ وأعنفها الدعس والحرق حيّاً، لذلك فإن فكرة الهروب من هذا الجحيم الذي حلّ بليلة ظلماء على “أُم الربيعين” وأطفأ بهجتها الآمنة هو بمثابة العثور المستحيل على أجنحة سحرية تطير بك بعيداً عن هذا الكابوس الاسود.
“فلاش باگ” مُخيف تقصه علينا وهي- تتصفحه – كيف نجت بأعجوبة من سوق النخاسة في رحلة هروب مُرعبة من قرية في الجانب الايمن من الموصل حتى وصلت الى “المانيا”، تقول زينب الحمداني مستذكرة محنة احتلال مدينتها بعد تنهيدة: فرصة هروبنا كانت شبه مستحيلة لكن شاء الله لنا النجاة، الموت كان بكفة ومحنة طفلي الذي كان يبلغ آنذاك سبع سنوات بكفة ثانية، المصيبة أنه بدأ يُعبّأ بأفكار داعشية رغماً عنه لدرجة يقول لي إن الالعاب تماثيل مُحرّمة وظهور شعر الرأس يستوجب قطعه، أما الدم الذي غزا ذاكرته فكان كافياً لحفظ صور القتل المتكررة لحزِ رقاب المرتدين، لأن داعش كانت تتعمد تنفيذ الاعدامات والجلد في الساحات العامة لتعميق ذاكرة الرعب، كان يرى وبأمِ عينيه كيف كنّا نقع في يدِ “نساء الحسبة” لو صادفن إحدانا دون نقابٍ او جواربٍ، فتتم إحالتها الى “العضاضة” لتأخذ جزاءها الشرعي بالعقوبة المناسبة، وهو ما حصل لي وما زالت آثاره بكتفي حينما جادلتها مرة رافضة الاذعان لتُقيم عليّ حدّ قضم الكتف بواسطة الأسنان الحديدية.
قوانين وإجبار
أفكار مأزومة تورطت بها الموصل غفلة على حد قول “زكريا النجار” المترجم العراقي الذي كتب له ولأطفاله القدر حياةً جديدةً في مملكة السويد، بعد أن فرّ بأمه من الموصل إبان إعلانها مدينة للخلافة، حيث قال مستذكراً ومتألماً:
الجميع كان مضطراً للاذعان لمنطق داعش وسطوتها لأن داعش ومن الاسبوع الاول من احتلال الموصل بدأت بفرض قوانينها على أهالي المدينة لا سيما الرجال صغاراً كانوا أم كباراً وبشكل تعسفي ومغاير تماما لما عرفه أهل هذه المدينة، إذ إن منطق السيف هو الحاكم والعائلات المسكينة الهاربة لا حيلة لها؛ بعضها كتبت لها النجاة خارج البلاد والاخرى استكملت ظرفها البائس في المُخيمات دون مدارس ولا أماكن للعب، لأن المخيمات ليست مكانا مناسبا للعيش، فهي لا تسمح لهم بالتعلم ولا التخلص مما زرع بعقولهم كي لا تكون بيئات لتعزيز الانتقام.
ورطة التطرف
“عملية التطهير العسكري والامنيّ لن تنجح وتستكمل مهمتها إلاّ بتأهيل الجانب الفكري وتنقية العقائد من فكرة إبادة المختلف التي أدخلها داعش للمدينة الآمنة”، بهذا التحليل السايكولوجي، خصنا الاكاديمي العراقي في جامعة كوينزلاند الاسترالية (د.مؤيد بلاسم) بحديث عن مشكلة المخيمات المليئة بضحايا داعش، مكملاً:
التعامل مع داعش بطريقة عسكرية لا يكفي وإنما نحتاج الى علاج فكري، هذه العائلات والاطفال ضحايا آبائهم الذين اختاروا هذه الايديولوجيا المتطرفة التي لا تعرف سوى القتل والموت والكراهية والتكفير والتفجير وكذلك ضحايا الصراعات الاقليمية التي سمحت بنشر الفكر التكفيري المتطرف لأسباب سياسية وحولت شعوب المنطقة الى أدوات قتال، واعتقد أن حل هذه الكارثة يحتاج الى تضافر الجهود المحلية والدولية لإيجاد حل مناسب لهذه الكارثة لكي يتم منع انتشار سرطان الفكر التكفيري وتحويل هؤلاء الاطفال من قنابل موت موقوتة الى مواطنين صالحين ومؤهلين لخوض الحياة بسلام.
عجينة شرّ
المُدوّن الموصلي الحربي لأحداث المعارك والتحرير “صقر آل زكريا” وثّق لنا جانب الوصم الاجتماعي الذي واجه النساء وأطفالهن ممن وجدوا أنفسهم فجأة بلا هوية ولا وطن، إذ قال:
كل طفل في هذا العالم اذا منحته ورقة وأقلاماً ملوّنة فسوف يرسم لوحة، فما بال من تُرك لمصيرٍ مجهول، هنالك توتر مستمر وهؤلاء الصغار عقولهم مؤدجلة بأن كل مخالف يقتل، والمشكلة الاكبر أن الكل مقصر ومتغاضٍ عن تلك القنبلة الموقوتة، تلك المخيمات المتروكة والمهملة مثلاً تصنع جيلاً أعنف من كل المسميات المتطرفة، وكل يوم يمرّ وهؤلاء الاطفال يزدادون كرهاً وحقداً، لأن هذا الموضوع شائك ومعقد وفيه أبعاد عرفية واجتماعية متداخلة وتمس البنية الاخلاقية، هذا التنظيم اتخذ من النساء والأطفال ترسانة او ظلاً لامتداده وديمومته وغير آبهٍ بشيء، لا سيما ما حدث لأبناء وبنات الطائفة الايزيدية الذين استهدفهم التنظيم كما باقي الطوائف المخالفة لمنهجه الاجرامي في المحافظات التي سيطر عليها.