قلعة الگصير… أطول عزلة لشاخص تاريخي!

يوسف المحسن /

جدران، منذ مئات السنين، تنتصب وسط صحراء لانهاية لها بمواجهة التقلبات المناخية والسيول الجارفة خلال مواسم الأمطار، حزينة تخفي قصص الوقوف بوجه الغزوات، تحتفظ بحكايات المُحاصَرين فيها، وآثار المهاجمين على أسوارها الخارجية، هي قلعة الگصير في بادية السماوة، مرّ بها الرحالة الأوربيون والعرب .. وكتب عنها الآثاريون، …
استُخدِمت لصدِّ هجمات عدّة عبر التاريخ ضمن رقعة تتوسط المدن القديمة الثلاث: البصرة ..الكوفة..الشام. بعضهم أسماها حصناً، وآخر يراها حامية، أما المتبقي منها فبلا هوية.
هيكل يعوم في بحر رملي:
حصن بُني من الآجر المرصوف بمادتي الجص والقار على مساحة 1806 م2 يتألف من جدران تتراوح ارتفاعاتها بين مترين وثلاثة أمتار، في زواياها بنيت أبراج أسطوانية الشكل تستخدم للمراقبة وحماية الجدران التي شيدت على ربوة (گاره)، تحيط بها منخفضات رمليّة (فيضات).
يقول الخبير الآثاري، الدكتور متعب الريشاوي، في معرض وصفه: “تكاد تكون مربعة الشكل، أطوال أضلاعها تتراوح بين ثلاثة وأربعين واثنين وأربعين متراً، أسوارها الخارجية بسمك 3,8 م، أما التباين في ارتفاعاتها فيعود إلى عوامل التعرية طوال العقود الماضية، ولتراكم الأتربة والرمال، مضافاً إلى ذلك التآكل الذي أصاب الجدران، وغالبية بناياتها مهدمة بسبب الإهمال الذي حوّلها الى أكداس حجارة.”
وقد حفلت المكتبة التاريخية بالكثير من الإشارات عن وجود القلعة، إذ أورد لها الدكتور رجوان الميالي، في الفصل الأول من أطروحته للماجستير (القلاع في وسط وجنوب العراق، عمارتها وتخطيطها خلال فترة الاحتلال العثماني) ذِكراً في المبحث الأول من بين سبعة مباحث احتوتها الدراسة عن القلاع الشاخصة، التي مازالت باقية، وهي: الگصير، والرحبة، وقلعة شلال، وقلعة ذرب، وقلعة الشعيبة، وقلعة الخميسية، وقلعة عبد العزيز الفواز. ويقول الميالي: “دراسة هذه القلاع تهدف إلى التوغل في أعماقها لكي نصل الى غاية ما تحتويه من فلسفة علمية مزدوجة بين الآثار والتاريخ، فهي دراسة حضارية تاريخية في ذات الوقت، وبجوانب سياسية واقتصادية واجتماعية مستقاة من الوظيفة العسكرية للقلاع والحصون.”
فيما أعطى المؤرخ عبد الجبار الراوي وصفاً مقتضباً لها في كتابه (البادية) بأنها تقع الى الشمال الغربي من عين ماء غزيرة، كذلك وصفها عالم الآثار العراقي ومترجم ملحمة كلكامش من الأكادية الى العربية، طه باقر، بالقول “إن قلعة الگصير تقع على مبعدة كيلومترين من منطقة الگصير في بادية السماوة، وسميت نسبة الى الوادي الذي شيدت فيه.”
وقد تباينت الآراء والروايات حول تاريخ إنشائها، وفي وقت لم تحدد مديرة الآثار في المثنى، إيثار قاسم مشكور، الحقبة التاريخية قبل أن تُستكمَل عمليات التنقيب والدراسة حولها، يقول الخبير الآثاري، متعب الريشاوي: “إن الروايات حول تاريخ بناء القلعة اختلفت، فمنهم من يقول إنها محمية ساسانية لحماية حدود الإمبراطورية الساسانية من هجمات البدو، مثل الرحالة البرتغالي بيدرو تاكسيرا (تيخيرا حسب آخرين) الذي زار العراق ومنطقة الشرق الأوسط في القرن السابع عشر، إذ ذكر أنها تعود الى الشيخ محمد بن راشد آل مغامس، حاكم البصرة قبيل الفتح العثماني.”
طراز معماري ودور تاريخي
ينحاز طرازها العمراني الى النمط الكلاسيكي المتعارف عليه، الذي يرجح الغاية من بنائها كحامية للجنود في حقب زمنية مختلفة، وهو ما يُقصي فرضية كونها قصراً وسط صحراء شاسعة يتوسط الطرق الواصلة بين المدن القديمة، وفي داخلها توزعت بقايا مهدمة ومتضررة لجدران غرف ومسجد ومخازن وقاعة كبيرة، فيما الدلائل واللقى تشير إلى حضور أشكال زخرفية على الجدران الداخلية المغمورة، كخليط من الريازات العربية والساسانية والرومانية، وتصفها قاسم، وهي متخصصة في الآثار القديمة ورسامة فخار أثري، سبق لها العمل في التنقيب مع البعثة الألمانية بمدينة الوركاء القديمة، قبل أن تتسلم مهمة مفتش آثار المثنى “الحصن قديم وبُني على فترتين تاريخيتين، واحدة من الآجر القديم، وأخرى من الحجر الطبيعي، يحتوي على أبراج نصف دائرية من جهاته الأربع، وهو بناء شاخص وكبير وعلى درجة من الأهمية التاريخية.”
فيما يضيف الريشاوي: “لعبت هذه القلعة والملحق الذي أقامه آل ظفير بالقرب منها دوراً في صد الهجمات الوهابية على العشائر العراقية مطلع القرن العشرين، وماتزال هناك بقايا لمقبرة تضم رفات المهاجمين الذين قتلوا على يد آل ظفير.”
ومن خلال البحث يمكن القول إن القلعة كانت مسرحاً لمعارك الأمراء والولاة المتصارعين في العهد العباسي الثاني 334هـ 656 هـ .
عزلة لا تنتهي
إلى الجنوب من قضاء الخضر، وبمسافة تزيد على خمسة وستين كيلومتراً وبين تموّجات الأرض الرملية الزاحفة، شُيّدت القلعة (الحصن)، لتتوسط المسافة الصحراوية للبادية، وعلى الرغم من زحف المدن واتساع شبكات الطرق وما جلبه من عمليات استزراع للأراضي بالاعتماد على المياه الجوفية إلا أن الحصن (القلعة) مازال يغط في أطول عزلة لشاخص تاريخي، ولاسيما أن سجلات الحكومة العراقية لم تُشر إليه إلا في العام 1966، حين تعرّض هذا الموقع الأثري المهم للتخريب لأكثر من مرة من قبل الباحثين عن الآثار والمهربين لها، فيما تهدمت أجزاء مهمة من جدرانه، وقد شهدت المنطقة المحيطة بالقلعة الأثرية عمليات نبش واسعة بحثاً عن لقى تاريخية.
استراحة هواة الصيد:
الصياد صفاء بسيطة، وهو واحد من الناشطين في ميدان حماية التنوع الإحيائي ومن هواة الصيد الذين يجوبون البادية الجنوبية لممارسة هوايته قال: “إننا نأتي إلى قلعة الگصير من أجل التقاط الصور والتمعن بتاريخ هذه البلاد، ومن أعلى أسوار القلعة يمكن أن نتمتع بمناظر جميلة عند الغروب، لكنّنا نشعر بالمرارة حين نرى هذا الصرح وقد تعرض للتخريب والنهب.”
أما زميله رحمن حمودي كاطع، وهو صيّاد للصقور يرأس فرع جمعية الصيّادين ومربي الصقور في المثنى، فقد دعا “الجهات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية المهتمة بالآثار إلى ضرورة العمل المشترك من أجل حماية قلعة الگصير من التدمير واتخاذها مرفقاً سياحياً هو عبارة عن استراحة في وسط الصحراء، ولاسيما أن المنطقة (وادي الگصير) تستقبل الصيادين العراقيين، وكانت تجتذب القادمين من دول الخليج العربي، فيما تمثل المساحات المحيطة أماكن رعي وافر يستوطن فيها البدو الرحّل، فالقلعة تأكيد على حضارة متأصلة، أما أجواء الصحراء المحيطة بها فخلابة، لم أشاهد مثلها سابقاً.”
فريق من (شبكة الإعلام العراقي في العام 2010) اكتشف وجود أجزاء بقياس 100سم ×75سم من جدران القلعة الأربعة مرفوعة بعناية، حيث أكدّ الصياد صفاء بسيطة أنها “رُفعت وحُملت إلى جهة مجهولة، وأعتقد أن على هذه الأجزاء كُتبت معلومات تاريخية مهمة تحكي قصة هذه القلعة.”
خطة لدائرة الآثار والحفاظ على التراث:
يتفق باحثون ومتخصصون في الشأن التاريخي، من بينهم الدكتور الريشاوي، على أن المزيد من عمليات التحرّي والكشف يمكن أن تخرج بنتائج مدهشة حول الحقبة التاريخية التي شُيدت فيها والدورين الاقتصادي والسياسي اللذين شغلتهما، فيما تفيد دلائل على وجود أجزاء ملحقة بالقلعة دفنت واندثرت بفعل عمليات التعرية والسيول المائية التي ألحقت ضرراً بالجدران الخارجية، ويضيف: “من المحتمل، لو أجريت عمليات تنقيب بالقرب منها، العثور على دلائل تجمعات سكانية قديمة، كونها تقع على مرتفع يطل على وادي (أبو غار)، وهو امتداد قديم للخليج العربي، ومن الممكن صيانتها وتحويلها الى معلم سياحي وتراثي يعود بالفائدة، وبشكل مماثل لما حصل مع حصن الإخيضر في كربلاء، ولاسيما أنها تتوسط مساحة غنية بمخزون المياه الجوفية العذبة التي تسمح بإقامة المتنزهات.”
ولا يمكن الإقرار بهذه المشاهدات قبل استكمال عمليات الكشف والدراسة والتنقيب التي تخطط لها مفتشية الآثار، إذ تقول المديرة، إيثار قاسم: “إن النيّة تتجه لصيانة الحصن، وهي بانتظار الموافقة من دائرة الأثار والحفاظ على التراث، ولاسيما أن الموقع كبير ويقع في منطقة نائية.” مضيفة: “من الممكن أن يتحول الحصن الى مكان سياحي في حال إنجاز ما نخطط له من إعادة تأهيل وكشف وحماية ليكون المعلَم الأكثر جذباً للدارسين والسياح في البادية الجنوبية.”
أمنيات وخطط قد تضع نهاية لأطول عملية عزل يتعرض لها معلَم تاريخي بذاكرة ممتلئة.. مثل قلعة الگصير.