لمحة في السيرة الكاظمية

جعفر الخزاعي تصوير/ وكالات
حينما نتطلع إلى التاريخ ونقلب صفحاته، لا نجد سوى نفر قليل ممن خلد أثرهم ومد ذكرهم لأكثر من ألف سنة. لكننا لا نجد منهم من تحيى ذكراه في كل عام، إلا الشخصيات العظيمة التي كان لها الأثر البارز في مجريات التاريخ.ومن أهم هذه الشخصيات العظيمة هو الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع)، الذي نمر في أيام ذكرى استشهاده، إذ استمر الناس في إحياء هذه الذكرى منذ أكثر من 1300 سنة، مع كل ما في التاريخ من تغيرات سلطوية ومنعطفات دينية وتحولات اجتماعية.
كاظم الغيظ
ولد الإمام (ع) في 7 صفر عام 128هـ في المدينة المنورة، وترعرع تحت كنف أبيه الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)، وسمي بالكاظم لأنه كان حليمًا معروفًا بكظم غيظه مع من يعاديه ويبغضه.
عاش (ع) مع أبيه الإمام الصادق (ع) ما يقارب العشرين سنة، إلى أن أمسك بزمام أمور الأمة بعد استشهاد أبيه، وهو ابن عشرين، ليقوم بقيادة الأمة قيادة إلهية حكيمة تخللتها تحركات سياسية وعلمية وإصلاحية عظيمة وفريدة جعلت السلطة آنذاك تخشاه وتأخذ الحيطة والحذر منه بسبب ما شكلته – تلك الحركات- في قلوب المسلمين من آثار كبيرة.
إمام المسلمين
ابتدأت حركته العلمية، التي قامت على إكمال مسيرة أبيه الإمام الصادق (ع)، في الحلقات الدرسية التي كان يعلّم فيها المسلمين مختلف المعارف الإلهية المستقاة من النبي الأكرم (ص) وأهل البيت الأطهار (ع)، التي تؤدي بهم إلى الصلاح والهداية في أمور دينهم ودنياهم. وخرج من تحت عباءة هذه الحلقات الدرسية أكابر علماء المسلمين بمختلف مللهم ونحلهم، ما جعلهم يتفقون جميعهم على عظمة علمه ورفعة منزلته (ع)؛ ليقول فيه شمس الدين الذهبي في كتبه: (كَانَ صَالِحًا، عَابِدًا، جَوَادًا، حَلِيمًا، كَبِيرَ الْقَدْرِ. وهو الإِمَامُ، القُدْوَةُ، السَّيِّدُ، أَبُو الحَسَنِ العَلَوِيُّ، وَالِدُ الإِمَامِ عَلِيِّ بنِ مُوْسَى الرِّضَا). ما يبين أنّ الإمام كان إمامًا لكل المسلمين عامة وغير مختص بفرقة أو ملّة واحدة كما يتوهم البعض.
مهمة ربانية
أما سياسيًا، فقد وصل الإمام (ع) من خلال أصحابه الخلّص إلى أكثر أماكن السلطة أهمية، أهمها منصب الوزارة الذي كان يتقلده صاحب الإمام (ع) المخلِص (علي بن يقطين)، آخذًا أوامره ونواهيه من الإمام (ع) عبر مراسلات سرية خاصة.
وظل بحر عطائه زاخرًا، وفيض علمه مستمرًا، إلى أن ضيقت عليه السلطة الخناق شيئًا فشيئًا، لتضعه في أعتى السجون وأشدها، قاصدين النيل منه والحد من فاعلية حركته. لكن برغم ذلك بقي أثره فياضًا حتى في قلوب سجانيه الذين كانوا يضعونه في سجونهم، حيث أنه كلما وضع في سجن لفترة، طلب السجان من السلطة إطلاق سراحه لما يراه -السجان- من أخلاق حميدة وورع نبوي، لتضطر السلطة لنقله إلى سجن أشد، وعلى هذا الحال، حتى وضع في سجنٍ كان جلاده من أشد الناس عداوة لمحمد وآل محمد (ع) وهو السندي بن شاهك.
لكنه مع كل هذه التضييقات، لم يتوان (ع) في أداء الرسالة الإلهية وإتمام المهمة الربانية، إلى أن وضع له ذلك الملعون السم في طعامه بأمر من السلطة، ليقضي (ع) نحبه شهيدًا صابرًا مجاهدًا محتسبًا في 25 رجب عام 183 هـ.
ملحمة عزائية
إلّا أنه (ع) لم يمُت في قلوب محبيه؛ بل بقي ملاذًا يلوذون به، وخيمة يلتجئون إليها، وحصنًا يحتمون به، كلما عصفت بهم الأيام وتزاحمت عليهم الهموم وتكالبت عليهم المحن، يقصدون حرمه ينفضون فيه غبارها ويبددون فيه أردانها.
وها هم اليوم يشكلون ملحمة عزائية يتزاحم فيها المئات والألوف، نساءً ورجالًا، شيبًا وشبابًا، يستذكرون أثره ويحيون أمره، لتظل ذكراه (ع) منارة خالدة يستذكر فيها المسلم سلوكه الرباني وخُلقه المحمدي وعلمه العلوي، ولتكون حدثًا فارقًا يتنبه فيه المرء إلى مصير المظلوم في قبال الظالم ومصير الولي في قبال الشيطان ومصير النور في قبال الظلام.