آمنة عبد النبي /
مات محمد.. خرزة البخت المُعلقة في بيوتات المنسييّن، وعلمگ الشّارة الملفوف بكفوف حبوباتنا، وفي لحظات الضيم الخانقة يلمع مثل خضرمة فيروزيَّة محكوكة الجوانب تقي العيال والأسمال نزير المطر، مع ما يشبه اليقين المرفّه وكأنه حضن سماوي لجمع الأرواح التي لم تجرب الحياة بعد.
مات حارس رغيف الخبز الأسمر، بين أصابعه المتيبّسة كقضبان وكأنّ لقمة الحلال المحتشدة في داخلها سجين مظلوم، يا إلهي..
الشهادة بقاء حينما يترك لنا فيها چلمة “حبيبي”.. وجه آخر لحبيبٍ متخثر فوق شفاهنا كـ غصَّة بلّور، تعانقنا بأبوة رمزيَّة ودللّول قادرة أن تبقي أحدنا صغيراً بين كفي أمهِ الغائبة أو أبيه البعيد، هذا إذا ما تحول وجودهما المُلح في لحظات الاحتياج الخانقة إلى دفء افتراضي، ونوع من التنكّر العُصابيّ لغيابهما البايولوجي، وكأن سِبّاحة گلب الحبيب منذورة لمعاندة الموت الفيزيائي، ومنح الذاكرة صلابة الإبقاء عليك حيّاً، لذلك كل من سمعها أو أعاد لفظها كذّب غيابك ورفض رحيلك بثقة العشّاق الكبار، وسألك بقناعة صوفيَّة طافحة بالذهول:
كُفّ عن التظاهر بالموت، افرش لنا عباءتك كي نلوذ بطرفها يا قارئ حروف المسمارِ والساتر، طيب “گول لا “.. كما كنت تلفظها سيّداً بلا شوائب، كآهٍ حارّة من قلبك الرائب الذي كنت تلُمّ في داخلهِ السّمران لتُبقي هذا الكوكب آدمياً.
أنا أعرف أن لا قيمة لسؤالي؛ لكن بمَ يمكن تعويضك!؟ و”الحياة حفنة مسامير بيد صانع أحذية”.. كما تقول دنيا ميخائيل..
المصيبة الكبرى أن الحبّ فيض، والحزن عليك حالةُ تجلٍّ صوفيَّة فوق العادة، تهبط على أرواحنا بجلالة تخضّ الأنفاس. لكن صدقاً لا أعرف، من أنسنَ “الچلمة” لتكون وجهاً آخر للحبيب بعد الرحيل، وليصبح لها صوت منغّم يعلّم أولادنا بأنَّه لا وجود لأيِ مجدٍ ونص فذَّ في حضرة الدم، لأن الصدر حيّ، وإن ختمَ فوق تقريره بالنهاية. ولا أدري من أقنعها بأنّ النفع الوحيد الذي بقي لنا في هذه الحياةِ بعد رحيلك هو البكاءُ والـ (لا). نحنُ أبناء القَهْر الممسوسين بـ محمد الذي لم ألمحهُ في كتب العقائد، ولم أفتش عنه في مجلدات العرفان المُنفلتة من وجع الوجود ولذّته المزعومة، بل كان خرزة مُعلقة في بيوتات المنسيّين، حيث لا شيء متماسكاً في داخلها سوى “لالتهِ المكسورة” والقَهْر، لأن الأوجاع الفذّة لا يكتبها سوى المقهورين، أبناء القهر، والممسوسين به، فكلُّ شيء يمكنُ إخفاؤه عن العينين، إلا الفقد الذي يتكدس فينا طبقات ولا يقتل صاحبه، وإنما يمتصُ روحه، ويقشَط منها كل ما يلمع، فتعود إلى الحياةِ مصابة، لذلك كانت آهُك وطناً كاملاً من العصافير..
أتعلمون، كم هو قاسٍ هذا الموت المبتور العمر، دعوني أسألكم أيها القاحلون بفراقه، ما الذي كنتم تودّون قوله للسيّد في الليلة القاسية التي أرخى فيها جفنيه غير حثّ ينابيع الدمع وصفنات الفراق الطويل.
قل لي يا عليَّ الكعبي، شمّةُ القداح السمراء، عني شخصياً أود وضع صورتك في متحف اللوڤر، وأدير العدسة باتجاهك ليتموّن الكون من سمار الرجولة، وأنت تكفنهُ بيديك السمراوين، وتُزيح عن جبينه الشيبة الخضيبة بنشغةٍ ساخنة، أظنك تعمدت أن لا تدفن بجوارهِ چلمة “حبيبي”، ولويت عنق القدر بفروسية كي تُبقي هذا الكوكب آدميّاً ومحروساً بتميمة عجيبة كان ينطقها بانفعالِ مُحبٍ، كأنه يُعيد إلى هذا الكون آدميته، وما اختلَّ من معاييره وأنساقهِ البشريَّة، لذلك وجد حرجاً من نطقها بعد رحيلك سيّد..
طيب، ماذا لو جربتُ وشوشة نتف البياض الغافية على مُحيَّاك محمد النعماني، وسألتك بهداوة؛
مُنذ متى وأنت مُعلق بأطرافِ روحه كلمسةِ طُهرٍ، رفعت رأس محمّد وقبلته، ثم مرّرت يدك الراعشة على مكان “الطلقة” في المنتصف، كنت تطوي النزيف وتعضّ عليه دون أن تُسَمّيه أو تجعل أحداً ينتبه لمرورهِ ولو لمرّةٍ واحدة، تُرى كيف واجهت هول الانفراد بكل تلك العتمة! يا للألم.. يا للألم..
البكاء ما زال يعلو عليك، وسيظل في بلادِ الكراسي والمآسي، لذلك فإن فينا ما يكفي لأن نكون محسودين بكَ وبديالكتيك طينك الحريّ وتحولات بياضك العرفانيّ التي لن يفسرها إلا من عجن (عطّابة) روحه بمشاحيف الفرات وصفنات كريم منصور وهو يتهجد بـ..تلَمْلِمَن كلهن عليّ.. تلَمْلِمَن..
ها هم محبوك يا “حبيبي” يأتون إليك قهراً وموتاً من كلِ فجٍ جريح، جيوشٌ من أصحابِ الوجوهِ الملحة وثياب البالة، الخارجين من المدنِ المنسيّة يأتون مشياً وطحناً، أنت أمانهمُ الوحيد تحت سقوف (الچينكو) وحيطان صرائف الخوص، يموتون ميتة الأباطرة، وهم محرومون من كلّ شيء إلا حرزك، هوّن عليهم ياربّ، الدموع في حضرتهِ لا تحتاج إلا لبزّةٍ لفظية لتدرّ ظليمتها إلى العالمِ بأسرهِ..
فـ آه لو كنت موجوداً يا محمد..
لكان كل اليتامى الذين تركتهم الحروب بلا آباء
يصطفون الآن أمامك بهدوء
أنت في نظرهم مثل كلمة “باب”
يحذفون منها الحرف الأول
ثم يدخلون جميعهم إلى حضنك آمنين.