آمنة عبد النبي /
تخيلوا، في بلاد الثلوج العنيدة والحيطان التي لا يدفئها غير ظلالِ الأهل، لا أحد من الجيران الملاصقين يضع على الحائط ماعون (محلّبي) كعربون محبّة وتراحم رمضاني، وليس هنالك (مسحرچجي) يجوب الطرقات الميتة ليوقظ الناس بطبلته على موعد السحور، ولا وجود لأناشيد أطفالٍ يجوبون الدرابين، وفي أعناقهم أكياس قماشية وفوانيس قريقعان.
لذلك كان رمضان يمرّ في ديار الغربة حزيناً وخالياً من لمّة الأهل حول سفرة الفطور العامرة وطبلة المسحرچي وطگ طگ المحيبس، باعتبارها طقوساً عراقية جميلة يترقبها قلب المغترب ويلاحقها عبر شاشات التلفزيون والسوشيال ميديا.
بدائل وفرفشة افتراضية
يُقال إن هنالك من صنع لنفسهِ في المهجرِ طقوساً افتراضية تُشعره أن أطباق الإفطار والتعلولة والسحور، مفروشة على سفرة من أونلاين، في محاولة لخلق حالة افتراضية من المرح والبهجة مشابهة لرمضان، مع اختلاف فعلية الطقوس، دون أن يفقد الصائم لذته وصبره..
تقول التشكيلية المقيمة في ألمانيا (تمارا النجم): “رمضان في ألمانيا صامت ولا يحمل أية جمالية، شخصياً لم تخلُ ذاكرتي لحظة، ولاسيما حين أكون على سفرة الفطور، من مشاهد المحيبس البغدادي وعركاتهِ المُحبّبة التي يفتتحها صگار الدربونة وأسطتها في الفطنةِ السحرية والفراسة بـ “طُگّ.. طُگ.. طُگ” ليستخرجهُ من وجوه وعيون عشرات الشباب الجالسين بقلقٍ خوفاً من الوقوعِ في كبسةِ البات التي تمتد إلى ساعاتِ السحورِ الأخيرة..”
أما الناشط في حقوق الإنسان (صالح العلواني) فقد تحدث لنا من السويد بابتسامتهِ المعهودة:
“خصوصية الأوقات الجميلة في شهر رمضان قطعاً لا يمكن تعويضها بحذافيرها كالسابق، ولاسيما في بلاد المهجر، لكن أنا شخصياً عوضتها ببدائل طريفة، مثلاً في إعداد وجبات الطعام اللذيذة مع الزوجة، ومشاركتها أفكار كل وجبة، لكن تبقى خصوصية رمضان بكونه مختلفاً عن بقية الأشهر في حلاوته. كانت هنالك أزمات صحية، ومن ثم حرب أوكرانيا أو غيرها، لكن حلاوة رمضان تبقى هي هي، لأنها كفيلة بتقريبنا من بعضنا الآخر، نحن لا نمتلك خياراً سوى خلق أجوائه قدر الإمكان، وما يجعلنا نكون قريبين من بعضنا، وهي التكنولوجيا الرمضانية التي تساعد في إجراء مكالمات بالصوت والصورة على شبكات الإنترنت وتبادل الطبخات، لكن في الأخير يبقى اللقاء الحقيقي مع من نُحب أفضل بكثير، لذلك أحياناً نضطر إلى النوم في النهار أثناء الصيام، فهو أولاً عبادة وثانياً يساعدنا في تحمل الجوع والعطش الطويلين هنا.”
منافذ روحية وتقارب
“أشد الناس تأثراً بغياب التفاصيل الرمضانية المحببّة هم نحن المغتربون قسراً، في كل رمضان كنا نترقب حنيّة أهلنا وكفوفهم الطيبة المرفوعة بالدعاء، التي كنا نلتقطها من خلال شاشاتنا الصغيرة، سواء عبر البرامج العراقية أو ما ننقله بشكل مباشر عبر موبايلاتنا.”
تلك الروح العراقية الشفافة القادمة من مدينة الضباب لندن، كانت للمغتربة (سميرة العطار) أكملتها بحزن شفيف:
“لمّة الأهل حول سفرة الفطور، ومنظر المسحرچي وطبلته، والمحيبس والقريقعان، حتى وصفات الأكل وكيفية تحضيرها كانت حاضرة معنا، إلى درجة أننا أصبحنا نعلّم أولادنا المولودين هنا ثقافة رمضان وطقوسه، فتجدينهم يحدثونك عن رمضان والأعياد بكل التفاصيل وكأنهم ولدوا هناك، ولا خيار أمامنا سوى الجلوس في المنزل حفاظاً ووقاية على أروحنا في هذا الشهر، لكننا برغم كل ذلك نحاول فتح منافذ روحية وبدائل مشابهة بعض الشيء لما افتقدناه، لعلها تخفف لوعة البعد عن رمضان أهلنا، وذلك من خلال استخدام ثقافة (اللايفات) المتنوعة، وكذلك متعة المسابقات والمحيبس الأونلاين مع گروبات مغتربين أيضاً، تلك الأفكار اقترحتها على كثير من العوائل التي رحبت بفكرة بث التحضيرات الرمضانية وطرائق تحضير الأكلات الخاصة بالفطور، إضافة إلى تلك الفكرة، نحن أيضاً معتادون هنا في أوروبا كل عام على تبادل الأكلات الرمضانية فيما بيننا كأصدقاء، بتحضير أكلات معينة لخلق البهجة.”
بصمة أخلاقية تكافلية
مملكة الإوزّ والثلج والخضرة ‘النرويج’.. كانت لنا فيها وقفة مع المختص بالثقافة التنويرية (علي موسى) عن البعد السلوكي لرمضان في المهجر، قائلاً :
“الحياة في بلاد المهجر بعد الجائحة والحرب الحالية تفتقد إلى جمالية الشكل الثقافي الخاص بطقوسنا التي تركناها هناك، الفوانيس المعلقة، وصوت المدفع، وخصوصية الكثير من العبادات، لكن هذا الفقد القسري لم يفقد المغترب استشعاره بقيمته الروحية التي كانت حاضرة بكل قوة، لأن البصمة الأخلاقية لرمضان لها القدرة على تجاوز الحدود الزمكانية من خلال بركاته التي تجدها في كل شوارع العالم، وعلى موائد كل المذاهب والملل الإنسانية، أنا أعتقد جازماً أن البعد السلوكي لرمضان هذا العام سيتجه وبقوة نحو تغيير النفوس المبتلاة بالأزمات الاقتصادية وقبلها الجائحة، والدليل أن رمضان أوروبا هذا العام سوف يشهد تكافلاً كبيراً، فقد أعدت لهذا الشأن آلاف السلال الغذائية، إذ سيكون مشابهاً لما حدث في كوكب العراق، الذي أحب أن أسميه بهذا الاسم، لأن الخيرات فيه كانت توزع من شماله إلى جنوبه إلى غربه بطريقة تكافلية أذهلت العالم وأعطته فكرة عن الجانب الألمع في الحياة.”