مصيدةُ التوثيق الإلكتروني صيادو الأخطاء.. مجرمون بلا سلاح!

آمنة عبد النبي/
كانت الخطيئة او”الطرگاعة” مختبئة في جوفِ الزمانِ والمكانِ، لا يتعدى حيزها طشة العائلة او نسوان المحلة او “سالوفة” عصرية تطش ليومينِ في الدربونة، لم يكن هنالك فيسبوكي لئيم يحفر مكانها المؤبد في ذاكرةِ الأجيالِ ولا وجود لأنستغرام او تويتر ليتكفلا بمهمةِ تعليقها مشنوقة أمام العالم
امّا اليوم فجميعنا محبوسون داخل مصيدة التوثيق الإلكتروني الذي لا عمل له سوى أرشفةِ لحظاتِ الضعفِ والانفلات، أي أن المراهقة التي تخطئ في عمرٍ طائشٍ قد تضطر لدفعِ حياتها ثمناً لأن المقطع الموثق في هواتفِ شبابِ المنطقةِ والعشيرة تحول الى عارٍ عائليٍ أبدي، وأن المقطع المسروق من هاتفِ أحدهم سيرهن حياته في كفِ (الدياثةِ) الافتراضية، وكذلك بصمة الصوت التي تخرج في لحظةِ غضبٍ ستبقى محفوظة في خانةِ الرسائلِ اللئيمة لتُذكر صاحبها كم كان بشعاً”!
مجرمون بلا سلاح
” المقطع الذي طشّ لامرأة ضحية مسكينة تم الاعتداء عليها، يظهر كيف يستجوب ضابط التحقيق المرأة وهي ترد عليه بـ (كوة مو برضاتي) الجملة التي أنهت حياتها الى الأبد”!
بهذا التوثيق القاسي، بدأت التربوية (جنان سعيد) وهي تتكلم بحرقة عن مآسي التوحش، مكملة:
“لقد اصبحت المراة المسكينة (ترنداً) للسخرية والتنمر والعار الأبدي، وانتهى بها المطاف منتحرة حرقاً في محاولة للهروب من هذا التوثيق القاتل لأن لا أحد من عائلتها استطاع مواجهة الفضيحة والناس والهرب والتخفي من أسراب المتوحشين في السوشيل ميديا، المصيبة حينما يُبرر هؤلاء المساكين، سواء عفوياً او اختراقاً مسرباً، بنواياهم الطيبة قد يتحولون في دقائقٍ الى جثث هامدة، انه عصر التوثيق القاسي الذي أصبحت فيه الهفوات والنوايا الطيبة القاتلة مدمرة للعائلة بأكملها فلن تنجو الأرانب حينما يختطفها ذئبٌ حاذق بلمح البصر. ”
موضة الطشة الفضائحية
“سابقاً كان التوثيق يجري بالشاهد والشاهدين والمبرزات والاعتراف، لا بالسوشيل ميديا والصفحات الدنيئة الباحثة عن الطشّة، سواء أكان الثمن سمعة أم حياة الآخرين”.
الكاتب والمُدون (ثائر چياد) أوضح أن أخطر ما يواجه أجيالنا هو هذا التوثيق القاتل، قائلاً:
“لم تكن الخطيئة تنتقل إلا ومعها رُزَمُ الإثباتات التي تكون في الغالب صعبة الإثبات ومحدودة الانتشار. ولكن حينما أصبحت الكاميرا مدمجةً مع الهاتف وصار الهاتف لصيقاً بصاحبه في كل وقتٍ ومكان، صار الفرد مشروع خطيئةٍ موثقة، إذ يمر الفرد بلحظات ضعفٍ واضطرابٍ وانتكاساتٍ نفسية ٍ ويصبح قريباً من الوقوع في أخطاء قد لا يقع فيها بعد تعديه الأزمة، فالمراهق ليس كالبالغ والواعي ليس كالغافل، الخطأ في هذه المحطات يمكن تجاوزه بعد عبور هذه المواقف ويعود الفرد لممارسة حياته بشكلٍ طبيعي، لكن في وجود التوثيق وعلى الإنترنت يصبح الموقف مختلفاً مكلفاً ومؤلماً لفترة طويلة، بنت ترتكب خطأها في عمرٍ صغير تدفع ثمنه سنواتٍ كثيرة إن بقيت الصورة أو المقطع الخاص بذلك الخطأ موجوداً على الإنترنت، وتدفع ثمنه من رصيدِ حياتها لسبب بسيط، إنه عصر التوثيق القاسي”.
افتراس من أجل البقاء
” تخيلوا، قبل فترةٍ ضجت الگروبات والصفحات والبيجات بحفلات السخرية ورُزم شتائم وهي تتداول قصة رجل يبيع أقراص سيدي فجرى توثيق فرحتهِ من قبل أحد المدونين بحركة غير اخلاقية ”
بانزعاج وألمٍ، هكذا تكلم المُختص في مجال التنمية البشرية (جهاد مهدي) عن حادثة مؤلمة، قائلاً:
“الرجل كان مستمتعاً مع أغنية ابراهيم تاتلس ومنسجماً معها بحركات عفوية يحاول من خلالها أن يسوّق لنفسه او لبضاعته، وهنا يظهر فجأة شاب مستطرق ليوثقها بكلِ وقاحة، طبعاً المقطع انتشر كالهشيم في النار والتعليقات كانت أشبه بغابة افتراس موثقة، السؤال هنا للمستطرق ومن على شاكلته: يا ترى ماهو سبب هذه العقدة الدنيئة التي دفعتك لكي تنتقم من هذا الرجل في لحظة ربما لا تعرف قيمتها لأن حياتك مبنية على الضياع، وأعظم شيء في حياتك هو توثيق هفوات او عفويات الآخرين وطشّها، وماهو المنجز الذي حققته وأنت تجعل أصدقاءك ومتابعيك يضحكون على رجل لاحول ولاقوة لديه، كل ما يملكه هي هذه الأقراص المدمجة، وكل قوته هي الحركات التي نؤديها في لحظة فرح وأحيانا في حزن، ألم تفكر بأولاده وهم يتصفحون الهواتف ويصفنون ويتألمون على التنمر والاستهزاء بوالدهم؟ والسبب أن توثيق الهيلگية واللطلطة والتنمر صار ثقافة جرفت عقول كبار الناس قبل صغارهم”.
ڤايروس افتراضي قاتل
“الأجيال غارقة في عصر الجريمة القاتلة الموثقة، لأن صانع المحتوى مجرم مع سبق الإصرار والترصد، يعرف أين يضع قدمه، ڤيديوهات خاصة وحوارات تنمرية وأفكار مريضة لها من يسوّقها تحت غطاء الترفيه والمزاح، والنتيجة أن حياتنا هي الثمن”..
بهذا التشخيص بدأت الباحثة والناشطة على مواقع السوشيل ميديا (بلقيس كاووش) قائلة:
“مواقع التواصل الاجتماعي في العراق لم تدمر عقول الناس فحسب، وانما حولت بعض النفوس الى وحوش كاسرة تجوب الفضاء الإلكتروني بحثاً عن فريسة نسائية او إنسان ضعيف لتمارس هوايتها وعقدتها بالقتل الافتراضي والتوثيق القاتل، فتيات طائشات ذهبن ضحايا هفوة مراهقة او مقطع شخصي مُسرب، المشكلة أن فوبيا الباحثين في ظل غياب (قانون صارم) عن جمهور وشهرة بإمكانهم توثيق فعل أي شيء يلفت إليهم الأنظار وبدون أية اعتبارات أخلاقية، ولهم جنود مزودون بأدمغة مغسولة بدون التفكير بصواب وخطأ ما يقدمون، جيوش لديها استعداد دائم للهجوم والبحث عن كل من يخالفهم الرأي، وهذا هو التوحش بعينه، وأظن أن الغاية من كل هذه اللعبة هو نشر الجهل والتطرف والقتل الافتراضي بكل أشكاله طالما أن المواضيع الهادفة لم تعد هي الهدف، والمشكلة أن من يتابع بمتعة لا يعلم أنه السبب في الشهرة من خلال عدد المشاهدات واللايكات، وهذا يشبه تماماً المساهمة في انتشار ڤايروس، لكنه هنا ڤايروس مضر بالمجتمع وجيل قادم بكل التشوهات، والقلة القليلة ممن يحاولون التمسك بالقيم والأخلاق، لا تستطيع فعل شيء أمام سيل جارف من السطحية المدروسة.”