مفردات وعبارات اجتماعية متوارثـــــــة تغرق مريض السرطان في بحر اليأس

إياد السعيد/
زرت صديقي العائد تواً من رحلة علاج في دولة شرقية، فحكى لي عن شيء فيه الكثير من الطرافة والألم فقال: “أثناء مراجعتي اليومية للمستشفى، سألني سائق التكسي عن سبب زيارتي المستشفى؟ فأجبته بأني مصاب بالسرطان وأتلقى علاجي هناك، فما كان منه إلا أن يلتفت نحوي برعب، ويطرق على قاعدة المقود (الدشبول) عدة طرقات، متمتماً بكلمات لم أفهمها، لكن مقارنة بالموروث الذي لدينا تعني أنه تعوّذ من اسم المرض.”
هنا أردت أن ألطّف الجو وأغيّر اتجاه الحديث نحو التفاؤل بدلاً من التشاؤم، فسردت له طرفة حقيقية وهي: “بعد علاجي من مرض السرطان وخروجي من المستشفى زارني أحد أصدقائي وأراد أن يخفف عني فقال نصاً: سهلة لا تهتم، عمي الله يرحمه أصيب بهذا المرض!!”
نعم هذه سذاجة البعض.. تمنيت أن نلتزم جميعا بمقولة (ليت لي عنقاً كعنق البعير).
لكن للأسف هناك من لا يعير لكلام المجاملات وزناً، فيطلقه كما هو، ولا يعلم ما قد يُحدثه من أثر نفسي ومعنوي في نفسية المريض، حتى أن ثمة مثقفين وعقلاء لا يفقهون التعامل مع مثل هذه المفردات وتنقيتها لاختيار الأنسب والأصلح، لأنها موروث شعبي متأصل في أذهاننا، وكأنها مراسم جامدة مثل كل عبارات المجاملة في كل المناسبات، نحن بأمس الحاجة لمراجعتها وتشذيبها.
قسوة المجتمع
(أم ربيع) مواطنة مصابة بالسرطان تقول: “أتألم كثيراً من عدم إحساس الغير، فمثلاً حين تحدثني صديقتي عن قريبتها وتقول (أصيبت بذاك المرض)، وهي تعرف أنني مصابة به، ولا تستطيع نطق اسمه، وهذه بلادة منها، لأنها ضمنياً تشير إلى خطورته وترعبني بلا وعي منها.” وتضيف: “كانت تشعر كأن المرض سيهاجمها بمجرد ذكر اسمه. فأزعجتني حقيقة.”
أما ما ذكره الشاب (ع.ي.) فيلخص قسوة المجتمع اللاواعي، إذ يقول: “في أغلب الأحيان، وعند معرفة أحد بمرضي يقول مباشرة وبلا وعي (اللهم عافنا بما ابتليت به غيرنا)، وبذلك يجعلني أشعر بثقل كبير ومعجز يقع عليّ دون غيري.”
تراجيديا مؤلمة ومحزنة يرويها أحد مرضى السرطان الذي يذهب مرتين في الأسبوع لتلقي علاجه: “في يوم علاجي كنت في سيارة نقل عام وخلفي كان يجلس شخصان يتحدثان بصوت مسموع، وبلا حذر أو خجل عن شخص ثالث، فقال أحدهما منتشياً (لقد انتقم الله منه فأصابه بالسرطان)، فما كان مني إلا أن أصرخ بوجه من نطق هذه الجملة (أنا مصاب بالسرطان فهل أن الله انتقم مني؟ ارحمونا من تفاهاتكم، وما هذه الجسارة على الله؟ وعلينا نحن المرضى؟) ولم أستطع مواصلة الطريق فعدت إلى منزلي مكتئباً!!” كان الله في عونه حقاً، فهي رصاصة في صدره ومن حقه أن يثور على هذه الجهالة.
نعود إلى عبارات المجاملة أيضاً، فثمة اصطلاحات مناسبة، ولغتنا كنز كبير نستطيع أن ننتقي منه ما يناسب مثلاً – (عافاك الله ، ندعو لك بالشفاء، العلم كفيل باكتشاف ما نراه صعباً الآن، قد يغير الله من حال إلى حال بطرفة عين، أنت أقوى من المرض.. وهكذا).”
رد عنيف من قبل (د. هيثم كريم) على من لا يحسن التعامل مع هذه الشريحة إذ يقول إن “من لا يفهم التعامل مع مرضى السرطان عليه أن يعيش في حظيرة حيوانات، لأنه عديم المشاعر.” سألته: ما الذي دفعه لهذا التشبيه فأجاب: “الحقيقة أن سؤالك أثار عندي جملة تناقضات في مجتمعنا للأسف، إذ إن ما أسمعه، بصفتي طبيب أورام، من هذه العبارات أتمنى على الإعلام أن يتطرق لها لتوعية المجتمع والتثقيف على التعامل مع هذه الحالات برقة وسلوك متحضر وحذر، بدلاً من زرع اليأس وإثارة الحزن في نفس المريض بكلمات غير مسؤولة.”
يقول (طارق الياس)، خبير التنمية البشرية: “يجب أن لا يرى المريض الحزن في عيون المقربين منه وحوله، بل أن نزرع الثقة لديه بأن شفاءه ممكن، فقد يغير فيها المريض من نمط حياته، لكنها بداية لحياة جديدة ربما ستسعده أكثر.”
الدعم النفسي
(د. لينا عاشور)، الاختصاصية النفسية تختصر الحال بما يلي: “مراحل الصدمة التي يمر بها مريض السرطان تبدأ بالإنكار، فالغضب، وبعدها المساومة، ثم أخيراً الاستسلام للواقع، لذلك علينا مراعاة حالته النفسية في كافة المراحل بالدعم النفسي وتطييب مشاعره، أما مرحلة علاجه فهي شديدة ومزعجة، إذ يتساقط شعره، مع شعوره بالحرقة والملل والألم، هنا يحتاج إلى تلطيف أجواء حياته واحترام رأيه ومرافقته في أفكاره بترسيخ إيمانه بأي معتقد يراه هو صحيحاً وإفهامه بأن مرض السرطان ليس نهاية الحياة.”
(د. أحمد عباس الذهبي)، أستاذ علم النفس في جامعة بغداد، يوجز الفكرة: “العديد من مرضى السرطان وصلوا مرحلة الشفاء بدعم المحيطين بهم، فالوهم والخوف يهيجان الداء، والأفضل هو عدم سؤال المريض عن المرض وعلاجه ومراحله، ولا تعط نصائحك أبداً ولا ترشده، بل تحدث معه في دقائق الزيارة عن موضوع ينسيه معاناته، واجعله يتفاءل ويتطلع لزيارتك مرة أخرى.”