نرمين المفتي/
لا تتشابه المآسي في بلادنا، فلكل مأساة جروحها وآلامها وآثارها الخاصة بها. فإن تقتل على جبهات الحرب غير أن تقتل في تفجير أرهابي، وأن تخطف وتدفع الفدية مالا، غير أن تدفع المال وتخسر حياتك معا. جرائم السلب والسطو المسلح، هي غير جرائم القتل على الهوية.. وهكذا مأساة المفقودين والمغيبين هي كذلك لاتشبه أي حلقة من حلقات السلسلة الأليمة من المآسي والفواجع التي دفع العراقيون ولا يزالون ثمنها الدامي طوال العقود السالفة.
هنا تفتح “الشبكة العراقية” هذا الملف لتلقي الضوء على قصص الغياب والفقد وعلى مسؤولية الجهات الحكومية المعنية في متابعة هذا الملف وحصر أعداد المفقودين وتبيان ظروف فقدهم كي لا يتحول الى قضية منسية.
ثلاث صور
ثلاث صور لا تفارق ذاكرتي كلما مر اليوم العالمي للمفقودين الذي يصادف الثلاثين من آب سنويا. ثلاث صور لثلاث أمهات انتظرن عودة ابنائهن المفقودين لسنوات طويلة، وكانت وصيتهن ان تدفن صور الأحبة المفقودين معهن، وهذا ما حدث فعلا.
صورة أولى
الحاجة سعدية، فقد ابنها (عمر) في معركة ناوسود- ايلول 1983- شمالي العراق- إبان الحرب العراقية – الايرانية. كان عمر من الأوائل على دورته في كلية العلوم، فور تخرجه استدعي للخدمة الالزامية وأصبح ملازما مجندا. قبل المعركة التي فقد فيها، كان اسمه ضمن قوائم المبتعثين للدراسات العليا، لكن الحرب لم تمهله.. توفيت أم عمر في 2011، وطوال السنوات التي مرت عليها، لم تجف دموعها وكانت طوال اليوم تتذكر طفولته ودراسته وتفوقه، هو الذي جاء بعد اربع بنات وقاومت جميع الأمراض التي اصيبت بها لأجل حلم واحد هو أن يعود عمر ويضع رأسه على صدرها وتسلم الروح. لكنها توفيت بعد ان عجز انتظارها ودفنت صورته معها.
صورة ثانية
الحاجة صدرية، فقد ابنها (يلماز) الجندي الذي عاد من الكويت سيرا على القدمين وجره سوء حظه أن يدخل كركوك يوم دخول قوات الحرس الجمهوري في انتفاضة 1991، شاهدته شقيقته وهو يقترب من بيتهم، لكن وحدة مدججة بالسلاح اعتقلته. كانت زوجته حاملا في شهرها الخامس. واختفى يلماز، وبدأت الحاجة صدرية تمضي اغلب اوقاتها عند باب الدار بانتظار ابنها.. وتوفيت من دون ان يعثروا عليه.. ولكن حظ عائلة يلماز كان (افضل) من باقي عوائل المفقودين، اذ تم العثور على رفاته في مقبرة جماعية في اطراف كركوك في 2003- حزيران وعند تشييعه كان ابنه الذي لم يره قد اصبح في الصف الخامس الابتدائي وهو يتقدم المشيعين رافعا صورة والده الذي كان مفقودا.
صورة ثالثة
السيدة فاطمة، فقد ابنها (كاظم) ابان الحرب الطائفية 2006- 2008، كان سائق سيارة اجرة شاب، اتصل بوالدته يوما من آب 2006 ليبلغها بأنه قد يتأخر، إذ سينشغل (بكروة جيدة، 25 ألف دينار)، ويعود قبل المغرب. حينها، كانت بغداد تغلق اسواقها قبل صلاة العصر وتتحول الى مدينة اشباح. ولم يعد كاظم، ولأيام وليال، كانت أم كاظم وجاراتها يفترشن الرصيف بانتظاره، ومرت السنوات ولم يعد ولم يقدر الصبر ان يمنحها املا، وفي 2011 اسلمت روحها لبارئها وحين تشييعها، رفع المشيعون صورة كاظم قرب نعشها، ومرة أخرى تم وضع صورة كاظم المفقود الى الآن قرب نعشها.
هذه القصص ليست إلا نماذج لمأساة عاشها العراقيون طوال الأربعين عاما الماضية ومازالوا يعيشونها بكل ما تحمل من آلام ومحن وحسرة وحزن وفقدان، من دون أن يلتف لها أحد سوى اصحاب المصاب ممن فقدوا أحبتهم، في اتون الحروب والصراعات الطائفية وأعمال الارهاب والجريمة المنظمة.
المفقود هو الغائب
في القانون العراقي، فأن ملفات المفقودين نظمها قانون رعاية القاصرين رقم 78 لسنة 1980، وتندرج أحكامه مع الغائب. وتنص المادة 86 من هذا القانون على أن “المفقود هو الغائب الذي انقطعت أخباره ولا تعرف حياته أو مماته”، بينما تعرّف المادة 85 الغائب بـ”الشخص الذي غادر العراق أو لم يعرف له مقام فيه مدة تزيد على السنة من دون أن تنقطع أخباره وترتب على ذلك تعطيل مصالحه أو مصالح غيره”. ومن حق الزوجة أن تقدم طلب إصدار حجة مفقود. وعليها أن تنتظر 4 سنوات من تاريخ صدور الحجة لتصبح أرملة، إذ تقيم دعوى لإثبات وفاة المفقود وتسمى حجة إثبات وفاة المفقود.. وهذه الدعوى تميّز تلقائياً. ويعتبر قانون رعاية القاصرين في المادة 95 “يوم صدور الحكم بموت المفقود” تاريخاً لوفاته.
زوجة مفقود
فقد زوج السيدة فيحاء، أم محمد، في معركة الطاهري في 1982، ولم تتمكن من الحصول على حجة مفقود ووفاة بسبب استمرار الحرب، واستمر وضعها القانوني غير بات ومعها عشرات الالاف من زوحات المفقودين وغالبيتهن كن في عمر الشباب، ولم يتمكن الحصول على حجة الوفاة الا في 2007. وقامت السيدة فيحاء بتربية ابنها الوحيد ولم تتزوج مرة أخرى، ومرة أخرى هناك عشرات الالاف من الزوجات الشابات مثل وضعها.
تعريف دولي
في الوثائق الرسمية لمنظمة الصليب الأحمر الدولية، يتم تعريف المفقودين بأنهم الأفراد الذين انقطعت أخبارهم عن أسرهم و/أو الذين جرى الإبلاغ عن فقدهم، استنادًا إلى معلومات موثوق بها، نتيجة نزاع مسلح – دولي أو غير دولي – أو عنف داخلي أو اضطرابات داخلية أو أي حالة أخرى قد تتطلب من هيئة محايدة ومستقلة اتخاذ إجراء بشأنها. وبرغم اهتمام منظمات دولية عديدة بقضية المفقودين ومن بينها منظمة العفو الدولية ومفوضية حقوق الانسان الخاصة بالأمم المتحدة، الا ان منظمة الصليب الأحمر الدولية هي الوحيدة التي منحت صلاحية العمل في هذه القضية في الدول التي يشكل فيها المفقودون قضية انسانية ومن بينها العراق، كما أنها المنظمة الوحيدة التي منحت صلاحية زيارة أقفاص الأسرى في النزاعات العسكرية بين دولتين.
الأعداد
تشير الوثائق الرسمية للجهاز المركزي للاحصاء – وزارة التخطيط – المنشورة في موقعه الرسمي على الانترنت ان عدد المفقودين العراقيين في الحرب العراقية – الايرانية بلغ 52785 وفي 1991 حرب الخليج 5654، وبلغ عدد المفقودين الذي تم توثيقه منذ 2003 الى 2012 هو 16099. ولا توجد جداول خاصة في الموقع لما بعد سنة 2012.
بينما تشير منظمة الصليب الأحمر الدولية الى انها “ووفقا لمصادر عراقية رسمية, فإن عدد الأشخاص المفقودين منذ الحرب العراقية ـ الإيرانية يتراوح بين 375 ألفا ومليون شخص” وهذا ما اكده مساعد الأمين العام للأمم المتحدة في العراق نيكولاي ملادينوف في 2014 بان “أعداد الأشخاص المفقودين في العراق بحسب التقديرات ما بين 300000 إلى ما يربو على مليون شخص، ومن المعتقد أن العديدين منهم قد توفوا ودفنوا في عشرات المقابر الجماعية الموجودة في أماكن متفرقة من أنحاء البلاد”.
حجم المأساة.
إذا كان هذا الحد الأدنى البالغ 375 ألف مفقود صحيحاً, فإنه يعكس حجم هذه المأساة التي لم يتم حسمها بعد والتي تواجهها العائلات والأشخاص المفقودون على حد سواء. فحين نتكلم عن شخص يفقد, لا نعني معاناة شخص واحد فحسب, وإنما أيضا معاناة عائلات بأكملها تنتظر الحصول على معلومات عن أحبائها أو عودتهم.”.. بينما قدر وزير حقوق الانسان في 2005 مع الاعلان عن تأسيس مركز وطني خاص بالمفقودين والمغيبين في العراق عددهم بـ 600 الف مفقود ومغيب. ومع الغاء وزارة حقوق الانسان في آب 2015 خلال حملة ترشيق الوزارات وتقليل النفقات، يبدو ان موقع الوزارة الملغاة قد توقف على الانترنت وبالتالي لم نجد موقعا للمركز الوطني للمفقودين و المغيبين.
عمل بطيء
مهما كان عدد المفقودين لابد من الاعتراف ان ملفهم سواء في الحروب أم بسبب النزاعات الداخلية والعنف أم المغيبين ابان النظام السابق، فأن المراقبين ينتقدون تباطؤ الحكومة في حسم ملف المفقودين منذ فترة الحرب العراقية – الايرانية ولغاية حدوث مجزرة سبايكر وما تلتها من أحداث. ويؤكد ناشطون ان الغاء وزارة حقوق الانسان لم يكن قرارا صائبا وانه برغم بطئ عملها، الا انها كانت تضم كوادر تم تدريبها في دول اجنبية وتخصصت في قضية المفقودين والمغيبين.
مقبرة مجهولي الهوية
تقوم السيدة أم ظافر بزيارة مقبرة (مجهولي الهوية) ضمن مقبرة وادي السلام في النجف الاشرف حيث آلاف المقابر لمجهولي الهوية بعد 2003 وتقول انها تعرفت الى امهات من مختلف المحافظات والمذاهب، ” لقد ألغى الاغتيال ظلما وعلى الهوية الطائفية في هذه المقبرة التي تضم الجميع “، كما تقول أم ظافر لمجلة (الشبكة العراقية ).
وتتوالي صور المأساة، مأساة عوائل المفقودين والمغيبين وبينها صور أمهات ضحايا مجزرة سبايكر، ومأسي أمهات كان ابناؤهن جرحى خطأ بـ (نيران صديقة) ابان الاحتلال وتم أخذهم الى العلاج في مستشفيات الميدان الامريكية ولم يعودوا..