حوار/ أحمد عبد ربه
يستعد العراق لإجراء أول تعداد عام للسكان بعد عقود من التخمين، يهدف إلى تغيير وجه الاقتصاد الوطني، وإعادة ترتيب الخريطة الاستثمارية، بما يتماشى مع طموحات البرنامج الحكومي. ولا يعد التعداد السكاني المزمع إجراؤه الأربعاء الموافق الـ 20 من الشهر الحالي مجرد إحصاء، بل أداة محورية لحكومة السوداني للانتقال إلى مرحلة من التخطيط الدقيق والواقعي الذي يسهم في تطوير السياسات الاقتصادية والموازنة العامة.
في حوارنا هذا يوضح كبير مستشاري الأمم المتحدة للسكان، عضو الهيئة العليا للتعداد، الدكتور مهدي العلاق لـ “الشبكة العراقية” أهمية التعداد ودوره في وضع أسس جديدة لمكافحة الفقر والبطالة، وفتح آفاق واسعة لفرص العمل والتنمية المستدامة:
* بداية هل يمكن أن توضح لنا كيف يسهم التعداد السكاني في تحسين التخطيط الاقتصادي وجذب الاستثمارات؟
– يجب أن تُبنى الخطط الاقتصادية على قواعد بيانات حديثة تتسم بالدقة والشمول، ما يعزز كفاءة عملية التخطيط الاقتصادي من خلال الاعتماد على بيانات إحصائية متنوعة، تشمل الخصائص الاجتماعية، والديموغرافية، والاقتصادية، والصحية والتعليمية للأفراد. أما فيما يتعلق بالاستثمار، فإن أفضل مسار للاستثمار المحلي، والأجنبي، يعتمد على قواعد بيانات موثوقة لتحديد إمكانيات الاستثمار بشكل مكاني على مستوى المناطق الجغرافية المختلفة. وهذا لن يكون واضحاً دون استكشاف الإمكانيات الحقيقية لتنفيذ المشاريع الصناعية والزراعية والخدمية. يوفر التعداد بيانات شاملة عن القطاعات المختلفة، ولا يقتصر دوره على تحديد أعداد السكان في كل منطقة فقط، بل يشمل توفير بيانات تفصيلية عن الأنشطة الاقتصادية المختلفة، والعوامل التي تساعد في تحديد مواقع هذه الأنشطة لتحفيز الاستثمارات وملء الفجوات المكانية. وهذا يعزز بلا شك إمكانات تطوير المناطق، إذ إن إقامة المشاريع في هذه المناطق توفر فرص عمل حقيقية لأبنائها وتخلق بيئة عمل تطويرية.
* كيف يمكن أن يؤثر التعداد السكاني على توزيع الموارد المالية بين المحافظات؟
– حدَّد الدستور آليات توزيع الموارد بين المحافظات، إذ جعل من نسب سكان المحافظات معياراً أساسياً للتخصيصات الاستثمارية بشكل خاص. وهذا المعيار يعتمد بطبيعة الحال على أعداد سكان كل محافظة. منذ سنوات طوال، لم يكن بالإمكان تبني نسب سكانية حديثة، بل كان يجري الاعتماد على تقديرات سكانية، أو ما يُعرف بـ (الإسقاطات السكانية)، ومع تغير الخصائص الديموغرافية للسكان، مثل أنماط الخصوبة، والحالة الصحية، ومعدلات الوفيات، كان لا بد من إجراء تعداد سكاني لتصحيح المسارات في هذا الاتجاه.
* ما أهمية التعداد السكاني في تحديد احتياجات العراق من الوحدات السكنية؟
– يمتاز التعداد العام للسكان في العراق بأنه لا يقتصر على عديد السكان فقط، بل سيتضمن جمع بيانات تفصيلية عن جميع الوحدات السكنية، سواء كانت دوراً مستقلة، أو شققاً سكنية، أو بيوت طين، أو صرائف، أو سكناً عشوائياً، أو غيرها. لذلك، ستصدر هيئة الإحصاء ونظم المعلومات الجغرافية في وزارة التخطيط، التي تقود مشروع التعداد الكبير، بيانات وجداول تفصيلية تحدد العجز السكني الحقيقي على مستوى كل التشكيلات الإدارية في العراق (النواحي، الأقضية، المحافظات)، كما ستحدد الحاجة المستقبلية للوحدات السكنية في ضوء معدلات النمو السكاني التي ستكشف عنها نتائج تعداد 2024.
* كيف يمكن لنتائج التعداد السكاني أن تؤثر في ستراتيجيات مكافحة الفقر؟
-أطلقت وزارة التخطيط ستراتيجيتين لتخفيف الفقر بين عامي 2010 و2020، إذ جرى تحديد المحصلات الأساسية التي ينبغي تحقيقها لتخفيف الفقر في العراق. وتشير أحدث إحصاءات هيئة الإحصاء إلى أن نسبة الفقر الحالية في العراق تقدر بنحو 17.6%. ورغم التحسن النسبي مقارنة بالسنوات السابقة، حين كانت نسبة الفقر عام 2020 تبلغ 20.5%، إلا أن الوزارة تعكف حالياً على إطلاق الستراتيجية الثالثة قريباً لتحقيق تحسن إضافي في وضع الفقراء، وخفض هذه النسبة خلال الأعوام الخمسة المقبلة، وستكون قاعدة البيانات التفصيلية للتعداد السكاني مفيدة جداً في رسم ستراتيجية التخفيف من الفقر بشكل أكثر دقة. كما أطلقت وزارة التخطيط مؤخراً خطة التنمية الوطنية الخمسية (2024-2028)، وجرت صياغة المبادئ والمرتكزات على أسس عدة، كان من أهمها التوزيع والثقل السكاني في المحافظات.
إن عملية تحديد المشاريع الاقتصادية والخدمية ينبغي أن توفر مقومات حياة منتجة لسكان المحافظات. صحيح أن بناء المشاريع الصناعية، على سبيل المثال، يعتمد على توفر عناصر إنشاء كل مشروع صناعي، بما يعرف بالتوطين الصناعي الكفء، إلا أن أحد أهم العناصر يجب أن يستند إلى قاعدة البيانات السكانية وكيفية تحقيق تنمية حقيقية، إذ تقود المشاريع، على اختلاف أنواعها في الغالب، إلى تحسين الوضع المعيشي لسكان تلك المناطق، ما يرفع مستويات تنميتها البشرية من خلال تحسين الوضعين الصحي والتعليمي، ورفع المستوى المعيشي بأبعاده المختلفة.
* برأيك، ما الأسباب التي تدفع الحكومة العراقية إلى رفع ميزانية مشروع التعداد السكاني؟
-التعدادات السكانية السابقة في العراق، كما في العديد من الدول، كانت تعتمد على منهج العد التقليدي باستخدام الجهد البشري، ما كان يقتضي انتظار سنوات للحصول على نتائج التعداد. على سبيل المثال، ظهرت نتائج تعداد عام 1997 في العام 2000، أي بعد أكثر من ثلاث سنوات من تنفيذه. لكن مع تطور منهجيات العمل، بدأت الدول في التحول من أسلوب العد التقليدي إلى استخدام أسلوب العد الإلكتروني في جميع مراحل عملية التعداد، بما في ذلك تصميم الاستمارات، وإجراء الاختبارات القبلية، والتعداد التجريبي، وتنفيذ عمليات الترقيم والحصر.
هذا التحول الكبير استدعى توفير بيئة عمل إلكترونية ضخمة تشمل بناء البنى التحتية، من مراكز بيانات رئيسة، ومراكز اتصالات، وغرف عمليات، فضلاً عن توفير ما لا يقل عن 150 ألف جهاز لوحي (تابلت) لجمع البيانات إلكترونياً من الميدان، كل هذه التطورات تطلبت تخصيص ميزانية ضخمة لتلبيتها، ولاسيما مع الحاجة إلى ضمان أمن البيانات أثناء مراحل العمل المختلفة وضمان إعلان النتائج العامة خلال يومين فقط، وإعلان النتائج التفصيلية الكاملة بعد أقل من ثلاثة أشهر.
* ما الفئات العمرية التي تشكل النسبة الأكبر من سكان العراق وفقاً للتقديرات؟
– ما يزال المجتمع العراقي يُصنف كمجتمع فتي، حيث تمثل الفئات السكانية صغيرة العمر النسبة الأكبر. ووفقاً للمعايير الدولية، يجري تقسيم السكان إلى ثلاث فئات: الفئة التي تقل أعمارها عن 15 عاماً، وفئة السكان في سن العمل (من 15 إلى 64 سنة)، وفئة كبار السن (65 سنة فأكثر)، وتشير التقديرات السكانية إلى أن الفئة الأكبر هي فئة السكان في سن العمل، التي تُقدر نسبتها حالياً بنحو 58%. ومن المتوقع أن تصل هذه النسبة إلى نحو 60% بعد ظهور نتائج التعداد السكاني. الوصول إلى هذه النسبة يعني أن العراق دخل مرحلة (الهبة الديموغرافية)، إذ ستكون غالبية السكان (60%) مسؤولة عن إعالة النسبة المتبقية (40%)، وهذا يخفف من أعباء الإعالة، ويوفر فرصة حقيقية لتحسين الإنتاجية والاستثمار والادخار. ومع ذلك، حذرنا دائماً من أن العراق إذا لم يستعد بشكل جاد لاستيعاب الأعداد المتزايدة من قوة العمل، ويهيئ فرص عمل حقيقية ومستدامة، فإن ذلك قد يتحول إلى نقمة ديموغرافية.
* لماذا اتخذت عوامل عام 2012 أساساً للقياس في التقديرات السكانية؟
-عملية تقدير أعداد السكان المستقبلية هي عملية مستمرة، إذ إنها تجرى بين فترة وأخرى، لكن أفضل التقديرات هي تلك التي تظهر بعد إجراء العد السكاني، لأن الفرضيات التي تعتمد عليها عمليات الإسقاطات السكانية تكون أكثر واقعية، خاصة مع التغيرات المحتملة في معدلات الخصوبة وأنماطها. لذلك، سيقوم العراق بتحديث تقديراته السكانية للسنوات المقبلة بعد الإعلان عن نتائج التعداد السكاني لعام 2024.
* ما نسبة النمو السكاني المتوقعة لعام 2024 في العراق؟
– معدل النمو السكاني في العراق كان يُحسب بناءً على الفرضيات السابقة، لكن التعداد المقبل سيقدم أرضية دقيقة لقياس معدل النمو السكاني، ليس على مستوى العراق فقط، بل على مستوى كل محافظة، فضلاً عن تقديم معدلات النمو السكاني في المناطق الحضرية والريفية. ومع ذلك، يُقدّر معدل النمو السكاني الحالي بنحو 2.5% سنوياً.
* كيف تنظر الاطراف الكردية إلى التعداد السكاني في المناطق المتنازع عليها؟
– وفقاً لقرار المحكمة الاتحادية لعام 2010، جرى فصل التعداد العام للسكان تماماً عن الإحصاء الذي ورد في المادة 140 من الدستور بشأن المناطق المتنازع عليها. لذلك، لن تُعتمد نتائج التعداد السكاني في أية محافظة، أو قضاء، أو ناحية، لتقرير مصير المناطق المتنازع عليها، وقد جرى الالتزام بهذا القرار من قبل الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، إذ سيكون التعداد المقبل تعداداً تنموياً فقط وليس تعداداً قيدياً.
* هل يتضمن التعداد السكاني فقرة تخص الشمول المالي والحسابات المصرفية؟
-لا يمكن للتعداد السكاني أن يدخل في تفاصيل كثيرة، مثل الشمول المالي أو الحسابات المصرفية، إذ إن هذه المواضيع لا تندرج ضمن اهتمامات التعداد السكاني، لأنها تتعلق بالتخصيصات المالية، كما أن التوصيات الدولية تشير إلى أهمية أن يبتعد التعداد عن التفاصيل التي تسبب إرهاقاً في العمل، مثل الحسابات المصرفية، إذ إنه يصعب جمع بياناتها بدقة، لأنها تتطلب معلومات فنية متخصصة.