رجاء حسين – تصوير/ رغيب أموري
لطالما عبقت أزقة ومحلات وشوارع وأسواق بغداد بمهن قديمة تعددت في أهميتها وشعبيتها بين الناس، إلا أن الحداثة وتسارع الزمن ألغاها تماماً، ليصبح مكانها في ذاكرة من شهدها أو سمع عنها من أهله وأجداده، أو من زارها في المتحف البغدادي، بل إن الكثير من هذه المهن لم يسمع بها الجيل الجديد أو يعرفها.. هنا اخترنا تسليط الضوء على عدد من هذه المهن الجميلة التي اختفت.
حلوى وخيط باقلاء!
من بين المهن التي كانت تضج حلاوتها مع (أبو الجقجقدر)، وهو بائع حلويات جوال في المحلات البغدادية، حيث تصنع هذه الحلوى التي يعشقها الأطفال من الدبس بعد غليه إلى أن يصل حد اللزوجة، ويخلط بالـ (ليمندوزي) ويصب في صينية بعد اضافة الدهن الحر لمن يريد أن يتباهى بها، وبعدها يرش فوقها الحمص أو فستق العبيد أو الحلبي أو الجوز أو اللوز، ثم يحملها البائع على رأسه ويصيح (جق جق قدر).
أما المرأة التي تبيع الباقلاء وسؤالها المشتري “أنت يا لون خيط؟” فكانت قصتها أنها تبيع الباقلاء وحدها، أما الخبز فيكون من المشتري، إذ يجلبه ملفوفاً بخيط ملون بلون معين لتضع البائعة هذا الخبز الملفوف بقدر الباقلاء (تنگعه)، وبعدها تسأله “أنت يا لون خيط؟” لتميز خبزه بعد تشابك الخيوط الكثيرة في قدر ماء الباقلاء. كذلك كان (الضرضرمجي)، وهي لفظة تركية تعني بائع الحليب المحلى المجمد بالثلج. ومن المهن الشعبية أيضاً (بائع الفرارات)، الذي يقوم بصناعتها من الأوراق الملونة (مراوح ورقية) ويبيعها للأطفال.
خياط الفرفوري والجرخجي
كذلك من المهن القديمة التي اندثرت (خياط الفرفوري)، مُصلّح الأباريق والخزف المصنوعة من الفرفوري، إذ يقوم هذا الخياط بثقب الأجزاء المكسورة بمثقب خاص ويلصق الأجزاء بعضها مع بعض عن طريق خيوط أو قطع من النحاس، وهي مهنة أثرية بدأت قبل الميلاد وليست تراثية شعبية فقط.
فيما كانت هناك مهنة الحارس (الجرخجي) في تلك الأيام، إذ لم تكن في محلات بغداد وشوارعها أعمدة إنارة آنذاك، لذلك كانت مهنة ومهمة الحارس بزيه، الذي يشبه زي ساعي البريد، حماية بيوت الناس وأسواقهم، إذ يحمل فانوساً نفطياً وبندقية وصافرة، التي كانت تسمى بـ (ددك)، تبدأ مهمته مع أول غروب للشمس حتى الصباح.
بين الملمع والمبدل
كانت جميع قدور الطبخ قديماً مصنوعة من النحاس فقط، وكان في سوق الصفارين من يمتهن مهنة (ملمع القدور)، وذلك بوضع مادة في بطن القدور لتلميعها، واستمرت هذه المهنة إلى أن جاءت قدور (الفافون) وغيرها فاختفت هذه المهنة.
أما البائع الذي كان يصيح في الشوارع بغداد (عتيك، عتيك، يبدل مواعين)، فهو الذي يبدل الملابس القديمة بصحون زجاجية.
مسرح وسينما
وفي المسرح وسط الخشبة، كان هناك ما يشبه الصندوق، مغلق ومغطى، مفتوح من جهة الممثلين فقط، يجلس خلفه شخص يدعى (ملقن المسرح) بدون أن يشاهده المتفرجون، يمسك بيده النص المسرحي، ومهنته متابعة حوار الممثلين، وفي حال نسيان أي ممثل النص يقوم بتلقينه ذلك النص دون شعور الجمهور قدر الإمكان، هذه المهنة اختفت من المسرح ولم تعد موجودة. أما صالات السينما قديما فكان فيها (مشغل الفيولا) الذي يقوم بعرض الفيلم عن طريق البكرة والضوء، وواحدة من مهامه قطع المشاهد الحميمة في الفيلم، لتأتي دور العرض الحديثة فتلغي مهنته.
وكان في السينما أيضاً بائع (أبيض بأبيض) الذي يحمل (بسطيته) بيده يبيع فيها (بيض وبصل وسميط) لذلك سميت أبيض بأبيض.
جراخ السجاجين
في حين كانت مهنة (الجراخة) رائجة أيام زمان، وكان (الجراخ) ينادي بأعلى صوته في شوارع بغداد (جراخ سجاجين وسواطير) فتخرج ربات البيوت ليشحذن أو (يجرخن) سكاكينهن وسواطيرهن، إذ يضع الجراخ السكين على القرص الحجري من الجهة القاطعة ليتطاير الشرر وتصبح السكين حادة بتارة.
(صانع السلاسل) مهنة تكاد تختفي، ولم يتبق من محالها سوى عدد قليل في رصافة وكرخ بغداد، إذ لم تعد هناك حاجة إليها، فالبيوت والمحال تقفل بالمفاتيح، وأصبحت تستورد (الزناجيل).
ومع كم كبير من المهن القديمة التي اختفت ولم نستطع هنا أن نعدها ونستذكرها جميعها، نختم بمهنة (ساعي البريد) بزيه وقيافته ودراجته، وهو يحمل مشاعر وقلوب وحياة ومصائر الناس في رسائل ورقية، يوصلها للمتراسلين عابراً المسافات في البرد والحر، ليحل تطبيق (الواتساب )في الموبايل النقال وغيره من التطبيقات بديلاً عن هذه المهنة، ليغدو بعدها ساعي البريد مجرد ذكرى جميلة.