ضحى مجيد سعيد /
تعد مهنة الفخّار من أقدم المهن في بلاد ما بين النهرين، إذ تمتد جذورها الى أعماق التاريخ، وغدت اليوم تمثل موروثاً شعبياً وجزءاً من حضارة العراق، وبالرغم من زحف التكنولوجيا على كثير من المهن الا أن الفخار ظل يواجه هذا الزحف، فما تزال المهنة التي تعتمد على أدوات تقليدية طوّرها أصحابها بهدف اختصار الجهد والوقت تحظى باهتمام الناس وتلاقي رواجاً في الأسواق.
وعلى الرغم من أن صناعة الفخار كانت رائجة في أغلب المدن العراقية، إلا أن مدينة طوز خورماتو في محافظة كركوك تميّزت بهذه الصناعة التي ازدهرت فيها أكثر من سواها.
أسرار الفخار
عن أسرار صناعة الفخار في مدينة الطوز تحدّثنا مع أبو عباس صاحب أحد أقدم المعامل في المدينة فقال إنه ورث هذه المهنة عن والده وجدّه ونقلها هو لأبنائه وأقاربه، ويشير الى أنه قبل عقدين من الزمن كانت هناك خمسة مصانع للفخار له ولأقاربه ولكن لم يتبقَّ منها سوى المصنع الذي يمتلكه، وعن سرّ تميّز مدينة طوز خورماتو بصناعة الفخار، أشار الى أن موقع المدينة على طريق بغداد والمحافظات الشمالية جعلها تشتهر بهذه الصناعة لا سيما أن أغلب أصحاب المعامل في أزمان غابرة كانوا يعرضون بضاعتهم على الطريق، مبيناً أنَّ تسمية الفخار جاءت من عملية فخر الطين، أي وضعه داخل أفران نارية خاصة لتكتسب المنتوجات تماسكاً وقوة.
واستذكر أبو عباس أشهر أسماء صانعي الفخار في العراق ومنهم حجي شكري وحسين نيري وحجي جبار، مضيفاً: إن هذه المهنة اندثرت في بعض المحافظات العراقية، وقل الطلب على منتوجات هذه الصناعة عما كان عليه في عقود سابقة، إذ اقتصر الطلب هذه الأيام على الأواني الفخارية والجرار والقوارير المختلفة الاحجام فضلاً عن الزير أو القلة او الحِبْ (بكسر الحاء) باللهجة العراقية الدارجة.
ثلاجة الأجداد
قارورة الماء، أو “الحِب” كما يُسميه العراقيون يُعدّ من أشهر المنتجات الفخارية وأقدمها، ويسمّى ثلاجة الأجداد وما يزال هناك مَن يُفضّل استخدامه؛ ففيه كثير من عبق التراث، وتشير بعض المصادر الطبية إلى أن الأواني الفخارية المستخدمة في شرب المياه لها فوائد صحية كثيرة تقلل من مخاطر الإصابة بالفيروسات.
ويؤكد أبو عباس أن دخول المنتوج الأجنبي أثّر في سوق الفخاريات لا سيما أنَّه أرخص ثمناً من العراقي والسبب يعود الى استخدامنا مواد أغلى تجعل من المنتوج العراقي أكثر جودة، علماً أن المنتوج الأجنبي أكثر جمالاً، أما أسعار المنتوجات الفخارية فإن النوعية ومدة العمل تتحكمان بها، فمثلاً إذا كنا نبيع قطعة من إنتاجنا بـ(3000) دينار فإنَّ المنتوج الايراني بـ(1000) دينار لكن العراقي مرغوب أكثر وذلك لأن الفخار الأجنبي مكبوس وخالٍ من المسامات التي تسهم في عملية تبريد القطعة الفخارية لا سيما الأواني المستعملة لشرب الماء.
معرض بغداد الدولي
في سؤال عما اذا كانت هناك مشاركات في معارض محلية للفخاريات قال أبو عباس، شاركنا في معرض بغداد الدولي للمنتوجات الفخارية، وأحد أقاربي، أستاذ في معهد الفنون الجميلة، شارك في مهرجان الفنون الشعبية بالأردن والهند في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وعن إمكانية صمود صناعة الفخار في ظل التطور والتكنولوجيا، قال أبو عباس: سأبقى أعمل في هذه المهنة ما حييت، وأولادي سيكملون الطريق من بعدي وإن شاء الله تصمد هذه الصناعة فلا يمكن أن تندثر وهي تمثّل اليوم موروثاً شعبياً وهوية وتراثاً.
طائرة فخارية
ويذكر أبو عباس حادثة طريفة، إذ عمل أحد صانعي الفخار في طوز خورماتو تمثالاً كبيراً جداً يجسّد طائرة إيرباص ونصبه في داقوق.
مواد أولية
وتحدّث عباس الذي انخرط مبكراً في هذا العمل مع والده عن المواد الأولية التي تدخل في هذه الصناعة، ويمثّل التراب والماء مادتيها الأساسيتين فضلاً عن مادة أخرى تسمى النفاش تؤخذ من نبات البردي وتُمزج مع التراب والماء والملح وتتحول الى طين متماسك، مستدركاً أن أهم ركن من أركان هذه الصناعة هو الصانع الماهر وكل الأمور الباقية يمكن توفيرها بسهولة.
ويقول عباس إن مصنعهم معروف ويعد من أقدم مصانع الفخاريات لذا يستمر الطلب على منتوجاتهم الفخارية من جرار للزارعة وأخرى تستخدم في سقي الطيور وغيرها من الأواني المختلفة.
وأعرب عباس عن أسفه لعدم اهتمام الجهات المعنية بدعم هذه المهنة التراثية، مبيناً أنَّه في العقود السابقة كان صنّاع الفخار يحصلون على دعم لا سيما الوقود، أما اليوم فلا يوجد أي نوع من الدعم، مشيراً إلى أنّه طوّر عمله بالاعتماد على جهاز كهربائي نسميه (الجرخ) باللهجة الدارجة.
أدوات مختلفة
عمر هيوامندي صانع فخار وفنان تشكيلي ونحّات يبلغ من العمر 45 عاماً من مواليد مدينة الموصل، تعلّم هذه المهنة في قسم النحت والفخار بمعهد الفنون الجميلة، عن تاريخ هذه المهنة يقول: جاءت صناعة الفخار لتلبية حاجة الإنسان الضرورية منذ القدم فقد صنعها لسد حاجته في خزن المواد الزراعية والغذائية وأدوات للشرب والطهي وبعد ذلك تحولت إلى فن تشكيلي وتحفيات للتزيين وتحولت من وظيفتها الاستهلاكية إلى وظيفة جمالية.
وأشار الى أن سبب تميّز الطوز بهذه الصناعة يعود الى كونها منطقة غير رسوبية وخالية من الرمل، ويشير الى أن هذه المواد متوفرة أيضاً في محافظات أخرى لكن قدم منطقة الطوز وما حولها في صناعة الفخار جعلها تتميّز وتسبق غيرها من المدن العراقية الاخرى، واستدرك: إن صنّاع الفخار يعتمدون على الطين الأحمر، الذي يكون مليئاً بمادة الحديد وهناك مناطق في العراق، وهي أماكن تاريخية عمرها آلاف السنين تعطي هذه الخامة الطينية الجيدة. وفي سؤال عن تطور الصناعة الفخارية اليوم، يقول هيوامندي: نعم طرأت عليها الحداثة، كما أنها تحولت الى فن تشكيلي يدرّس في كليات ومعاهد الفنون الجميلة وتحولت النتاجات الى تحفيات أيضاً، واستدرك قائلاً: إن جمال هذه المهنة يكمن في كونها يدوية لكن ممتهنيها يجب أن يتمتعوا بخيال التصميم والرسم ولمسات فنية لوضع النقوش والخطوط.
تحف غالية
كريم الشيخاني، صاحب متجر متخصّص ببيع التحف الفخارية في أربيل قال: يمتزج في هذه الصناعة الفن التشكيلي والخزف، وتلقى منتوجاتها إقبالاً جيداً، لكن في الآونة الأخيرة شهد سوق الفخاريات ركوداً الى حد ما بسبب الظروف الاقتصادية للمواطن من جانب وجائحة كورونا من جانب آخر، فقد أُغلقت متاجرنا فترة من الزمن. وفي سؤال عن التحف الاثرية الفخارية، تحدّث الشيخاني أن الفخاريات التراثية لا تُباع الا نادراً وتكون باهظة الثمن، مشيراً الى أن سعر القطعة الفخارية يعتمد على صناعتها فكلما كانت متقنة وفيها نقوش وتتضمن فكرة ارتفع سعرها، لكن القطع الفخارية المتوفرة في أسواقنا طوال هذه المدة متوسطة الثمن وهناك أيضا قطع فخارية أسعارها زهيدة، وأوضح الشيخاني أنه على الرغم من دخول المنتوجات الفخارية الأجنبية الا أن منتوجاتنا الفخارية تلقى إقبالاً أكثر لجودتها ولانجذاب السياح إليها.
وفي كل الاحوال والظروف فإن صناعة الفخار تظل موروثاً شعبياً يعبّر عن عراقة الفن والإبداع في بلاد الرافدين.