نخيل البصرة.. حبٌّ وملائكة وشياطين

حسن العاني /

في خمسينات القرن الماضي كان عدد سكان العراق يقل عن (6) ملايين نسمة، فيما كان عدد النخيل يزيد على (35) مليون نخلة، أي أن لكل مواطن (6) نخلات، وكانت البصرة تحتل المركز الأول..

تراجع العدد في منتصف الثمانينات الى (16) مليوناً، وهبط في التسعينات الى نصف هذا العدد، أما في الألفية الثالثة فأصبحنا نستورد التمور من إيران!
ومع ذلك فهذا ليس أوان تقليب المواجع، ولا البحث عن الأسباب التي أدت الى تخلي العراق عن تسلسله الدولي في سلّم البلدان التي تزرع النخيل وتصدّر التمور، من المرتبة الأولى الى الثامنة.. وإذن فهي العودة بالذاكرة بضعة عقود الى أحلى أيام البصرة وتراثها وحكاياتها مع عمتنا المباركة..

حبٌّ وزواج

الأجدر أن نسميه (حبٌّ سري وزواجٌ علني)، كما عبّر عنه الحاج كاظم جواد (مواليد البصرة 1942)، حيث يقول: يعدّ موسم (القصاص)، أي قطف التمور، هو الأكثر رواجاً لحالات الحب والزواج، ذلك لأن المدينة تستقبل مئات الأسر القادمة من المحافظات القريبة (الى جانب الأسر البصرية) للاشتغال في البساتين بصفة عمال مؤقتين، وكانت وظيفة المرأة جمع التمور وتهيئتها للبيع في الأسواق المحلية العراقية، أو لمقايضتها مع البحّارة القادمين من الخليج العربي أو الهند، وهم يحملون شتى السلع.. ويطلق على هؤلاء النسوة اسم “الطوّاشات”، أما الرجال فينصرفون الى قص الغدوق وكري الأنهار وتسويق الحاصل، وكانت تلك اللقاءات اليومية بين الجنسين تمدُّ جسوراً للاعجاب بين مُزارع ومزارعة، لا يلبث أن ينتقل من العين الى القلب.. ولكن ماذا لو خفق قلب الفلاحة أولاً؟ الأديب الراحل عبد الجبار داوود البصري يردّ على هذا السؤال عبر بحثه الظريف عن تمور البصرة ((لأن المرأة الفلاحة لا تجرؤ على المصارحة خوفاً وحياء، تعمد الى حياكة (مهفة) أو (حصير)، وتقدمها هدية له، فإن كان يبادلها المشاعر سارع الى احضار عذق من (البرحي) وأهداه اليها))، وهكذا تبدأ علاقات الحب الحقلية، صامتة سرية حذرة.. وما مرّ موسم كما يذكر الحاج كاظم الا وشهد العديد من حالات الزواج، سواء بين أهل البصرة، أم بينهم وبين الوافدين..

عادات وتقاليد

السيادة المطلقة للنخيل في أيام عزّها، فرضت سطوتها على حياة المدينة الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية، وعلى أعرافها ولغتها. يذكر الدكتور هادي عبد المجيد أن أصحاب البساتين كانوا يبيعون تمورهم بطريقتين: الأولى ببيعه وهو معلق في الشجرة، وتتم هذه العملية ببيع (المحصول) قبل أن ينضج، حيث يتولى شخص خبير يطلقون عليه اسم (الخاروص) مهمة (التقدير) وإرضاء الطرفين، وفي العادة ،كما يقول الباحث التراثي الدكتور عبد المجيد، يكون السعر (رخيصاً) الى حد ما، لأن المشتري يتحمل أي ضرر غير متوقع قد يحصل، ويطلق على أسلوب البيع هذا اسم (الضمان)، أما الطريقة الثانية فهي البيع بالآجل، وعادة ما يكون السعر (عالياً).. وأهل البساتين يفضلون الطريقة الأولى لأن أسلوب (الآجل) ترافقه في الغالب مشكلات مالية بين الطرفين.

من طريف ما يشير اليه الصديق الراحل عبد الجبار البصري أن مراسم الخطوبة القديمة جرت على ذهاب (أم الولد) الى (أهل البنت) لجسّ النبض، فتقول لهم: “جئت أطلب منكم ماهو أعلى من النخل وأحلى من التمر”، في اشارة بلاغية الى منزلة البنت الرفيعة وجمالها الأخاذ، وحدثني الزميل الصحفي علي عبد الحسين أن الشباب في السابق كانوا اذا (تحرّشوا) بفتاة أو أرادوا مغازلتها قالوا “يابه شنو هاي.. طعم برحي لو حلاوة خستاوي”، أو عبارات بهذا المعنى. ويشير الأستاذ عبد الجبار الى إن الرجل البصري يستعمل مفردة (تمرة) كناية عن (القبلة) ومفردة (الرطبة) كناية عن المرأة الرقيقة!!

ملائكة وشياطين

لا شك بأن تلك الملايين من النخيل اذا ما حل الليل والظلام، تبعث رهبة في النفس، خاصة اذا خفق طائر بجناحيه او سقطت تمرة في ساقية أو اختضّت سعفاتٌ تحت وطأة ريح أو.. ومن هنا توهم سكان البساتين والعاملون فيها أن الشياطين والجن الطالح والطناطلة يشاطرونهم السكن. وقد نسجت (العجائز) من هذا الوهم حكايات يعجز عن الإتيان بها خيال أعظم المبدعين. وقد استثمرت الأمهات هذه الحكايات لإخافة صغارهن إذا ما أرادوا اللعب خارج المنزل ليلاً.. وفي هذا المجال يذكر الدكتور هادي أن البصريين كانوا يتجنبون النخلة ذات الرأسين، ويعتقدون انها (مسمومة) لكونها تنتمي الى الأفاعي ذات الرأسين، ويذهب الحاج كاظم الى أن أهل البصرة كانوا يطلقون اسم (النخلة المجنونة او المسكونة) على بعض نخلاتهم اذا كان جذعها مائلاً أكثر مما ينبغي، أما النخلة المفرطة في الطول، وجذعها نحيف، فيتهيبون من تلقيحها او الصعود الى جمارتها لأن (زوجة الشيطان) تستقر مع أولادها في القمة، وهي ترضعهم من عصارة التمر ولذلك تفقد النخلة عافيتها!! على أن الأمر ليس كله على هذا النحو، فثمة معتقد آخر بالضد يشير اليه الحاج كاظم، ومفاده أن بساتين (النخيل) تحديداً هي المكان المفضل لسكن الملائكة والجنّ الصالح والأرواح الخيّرة، بحكم أن هذه الشجرة مباركة وورد ذكرها في القرآن الكريم والأدبيات الإسلامية بلغة الثناء والمديح. وبالمعنى ذاته يقول الأستاذ عبد الجبار: إن النظرة المقدسة لهذه الشجرة جعلت البصريين يخصصون النخلات القريبة من السياج (وقفاً) للفقراء وأبناء السبيل، مثلما نذروا عدداً آخر منها للأئمة والشيوخ والمتصوفة، وأخرجوها من حسابات البيع والشراء..