ثناء البصام/
«الكريف» عبارة تسمعها بكثرة في المجتمع الايزيدي والسنجاري بشكل خاص المتكون من غالبية أيزيدية وأقلية مسلمة (كرد وعرب مسلمون) وعدد قليل من العوائل المسيحية. وكلمة «الكريف» تعني أخوّة الدم حيث يختار الايزيدي أو المسلم شخصاً يكون في الغالب من غير ديانته ليختن أولاده في حضنه وبهذا يكون أبو المختون والرجل الذي تم ختن الولد في حضنه «كريف» أي أخوة تُعقد برباط الدم، فقد يكون الايزيدي كريفاً لمسلم أو يكون المسلم أو المسيحي كريفاً للأيزيدي، وهذه عادة يمارسها أهل سنجار منذ مئات السنين لتعزيز روابط المحبة والتآخي فيما بينهم وهكذا تعايشوا لزمن طويل.
بعد سيطرة داعش على سنجار يكاد الساعي إلى تدوين قصص أهلها يسمع قصصاً مختلفة عن «الكريف» فللأسف هناك قد تسمع امرأة تقول لك «أستنجدتُ بالكريف فقام بتسليم ولدي إلى داعش» وآخر يحكي لك كيف «كان الكريف وأولاده يطلقون النار علينا في محاولة لمنعنا من الهرب» ورجل آخر يقول لك بألم عميق:
«تركتُ ابنتي أمانة عند الكريف خوفاً عليها من السبي وكلما كنت أتصل به يطمأنني أنها بخير حتى أتت هاربة يوما لتخبرنا أنه كان يقوم باغتصابها بعد أن تعاون مع داعش».
هذه القصص والحوادث تبين حجم الشرخ الذي حدث في بنية المجتمع السنجاري بعد أن كاد الأيزيديون يفقدون الثقة في الجميع، وخاصة من تعايشوا معهم سنوات طوال. لكن مع ذلك لدينا هنا قصة أخرى مختلفة تؤكد أن أخوة الدم لاتزال حية في قلوب وضمائر الناس مثل بريق أمل وسط الظلام.
عندما سقطت سنجار بيد”داعش”
اسرعت (أم هاوين) إلى غرفة الجلوس عند سماعها صرخة ابنتها ذات الخمسة عشر ربيعا فوجدتها متسمرة أمام النافذة وهي في حالة فزع شديد، حاولت الأم أن تفهم ماذا حدث لكن الفتاة كانت ترتجف وتشير بيدها نحو النافذة.
تقول أم هاوين (نظرت عبر النافذة ولم أصدق ما رأيت، كان هناك رجال بهيئات غريبة بعضهم ملثم، ينتشرون بشوارع سنجار يعتدون على الناس الهاربة لا أدري إلى أين، ويسوقون النساء والفتيات إلى سيارات نقل كبيرة وهن في حالة يرثى لها يصرخن ويولولن ولا رحمة تحت تأثير السلاح)
تستدرك الأم الشابة قائلة:
(كان ذلك بعد ظهر يوم الثالث من آب المشؤوم وكنا في بيتنا بقضاء مدينة سنجار ولم نكن نعلم بعد أن داعش قد سيطرت على معظم قرى سنجار خلال تلك الليلة وأن القضاء نفسه بات الآن تحت سيطرتهم)
سألتها ألم يكن هناك إطلاق نار ومقاومة خلال تلك الليلة؟
أجابت:
(نعم كان هناك إطلاق نار خفيف بين الحين والآخر لكننا لم نهتم لأننا أعتدنا سماعه خاصة بعد اقتراب داعش وسيطرتها على تلعفر والقصبات المجاورة).
طارق الباب
تسرد الأم ذكريات تلك اللحظة المريرة:
لم أكن أعرف لحظتها ماذا أفعل، أغلقتُ الستائر وجمعت أطفالي الأربعة في حضني وجلست في ركن بعيد عن النافذة، كل ما كنت أفكر فيه هو كيف أحميهم وأمنعهم من رؤية المنظر الذي رأيته في الشارع بينما كان والدهم يقطع الغرفة ذهاباً وإياباً حائرا قلقا هو الآخر، لم نتبادل كلمة بيننا حتى سمعنا طرقا على الباب.
يقول (والد هاوين) وهو رجل مازال شاباً ومعروف لأهل مدينته وقراها بحكم عمله فترة من الزمن كمصور:
– عندما فتحتُ الباب كان هناك ثلاثة رجال من ناحية البعاج المجاورة وقد عرفت أحدهم وشعرتُ أنه أحس بالحرج عندما رآني وقال بارتباك واضح بعد السلام:
– أهذا بيتك؟
– نعم تفضل
– لا شكرا كنا نريد أن نطلب بعض الماء
– من عيني
ذهبت وأحضرت لهم الماء فشكرني الرجل ثم قال لي:
– لا تخف إبق في بيتك لن يتعرض لك أحد وهذا رقم تليفوني سجله عندك واتصل بي إذا حدث شيء).
يضيف أبو هاوين:
لم أشعر بالاطمئنان لحديثهم ولا لهيئتهم وشعرتُ أنني وأطفالي في خطر حقيقي، خاصة بعد أن أجريتُ عدة إتصالات مع الأصدقاء والأهل وعرفتُ حقيقة ما جرى ويجري في سنجار. توقف تفكيري لساعة ولم أعرف كيف سأستطيع الخروج بعائلتي زوجتي وابنتي وبقية الأطفال من دون أن يقع لهم مكروه ونحن الآن محاصرون في بيتنا والقضاء كله تحت سيطرة الدواعش.
وخطر لي أن أحاول الاتصال بـ (الكريف مالتنا) أبو أحمد لعله يستطيع مساعدتنا) .
يقول (أبو هاوين):
قد تجدين قصتي غريبة بين عشرات القصص التي تتحدث عن خيانة الجار وأخوة الدم لنا بعد عشرة طويلة لكن كما هنالك من خان كان هناك من جازف بنفسه ليقدم لنا ما يستطيع ومنهم كريفنا الكردي المسلم أبو أحمد الذي ساعدنا بالخلاص وكان أحد أسباب نجاتنا وعدم وقوعنا بيد الدواعش”.
يعود الأب إلى تذكر اللحظة التي اتصل بها بكريفه أبو أحمد وهو في حالة يأس وسأله إن كان يستطيع المساعدة؟ وبالفعل لم يتردد أبو أحمد فقد سارع بالحضور هو وزوجته إلى بيت أبو هاوين وجلبوا معهم عباءة وقطعتي خمار لكل من زوجته وابنته وأخذوا العائلة معهم إلى بيتهم.
ويصمت الأب وعلى وجهه تبدو علامات القلق كأنه يعيش اللحظة مرة أخرى وهو يقول:
علمنا تلك اللحظة أن الحياة لم تعد كما كانت وأننا مقبلون على رحلة مجهولة. وبالرغم من ثقتي الكبيرة بجاري وكريفي لكن القلق لم يفارقني خاصة بعد أن عرفت حجم الكارثة التي حلت بنا كأيزيديين، قمت بالاتصال بأمي أمام كريفي وقلت لها بصوت يسمعه لا تقلقي يا أمي نحن بخير مادمنا دخلاء في بيت أبو أحمد” .
الصديق المنقذ
بقيت العائلة ليومين في بيت الكريف، كان أبو هاوين قد تلقى خلالها إتصالاً من صديق له كان يعمل معه سابقاً اسمه (و. الجبوري) ويسكن في الموصل.
يقول أبو هاوين:
كان صديقي هذا قلقاً علينا بعد سماعه ما حدث لسنجار فاتصل بي ليطمئن علينا وحين أخبرته بما حدث معنا عرض علي أن أحاول الخروج من سنجار والذهاب إليه في الموصل ووعدني أنه سيجد لنا طريقاً للخروج من الموصل إلى دهوك وكانت هذه الخطة هي باب الأمل الوحيد أمامي. لم يراودني الشك لحظة في صدق صديقي الجبوري برغم يقيني أنه يجازف بحياته مقابل مساعدته لنا. طرحت الفكرة على كريفي وقمتُ بالاتصال بأقارب زوجتي الذين قاموا بتأمين ثلاث سيارات أجرة لنا واتفقوا مع سواقها الذين كان اثنان منهم من العرب والثالث كان كرديا على أن يدفعوا لهم مبلغ ألفي دولار مقابل إخراجنا من سنجار إلى الموصل وهذا ما حدث.
خرجنا في السيارات الثلاث وكانت عائلة أبو أحمد معنا وكانت زوجتي وابنتي ترتديان العباءة وتضعان الخمار وعبرنا سيطرات الدواعش الذين لم يراودهم أي شك بنا لأننا كنا ذاهبون من سنجار إلى الموصل، أي إننا نتنقل ضمن حدود الدولة الإسلامية المزعومة.
وصلنا إلى بيت صديقي الجبوري في الموصل وودعنا عائلة أبو أحمد الذين عادوا إلى سنجار بالسيارات ذاتها التي أقلتنا.
بقيت العائلة في بيت صديقهم الجبوري في الموصل عشرة أيام لم يشعروا بأنهم ضيوف أبدا بل شعروا أنهم كانوا وسط أهلهم.
تقول أم هاوين بتأثر واضح على قسماتها:
كانوا يبكون معنا وكانوا خائفين علينا أكثر منا وكان صديق زوجي كريماً جداً معنا وحنونا جداً مع الأطفال ولم أنس ما حييت فضلهم ولا طيبتهم أبدا.
يلتفت أبو هاوين نحوي حين سألته هل تعرفون عنهم شيئاً الآن فيقول بإصرار واضح:
والله لو يحتاج صديقي هذا روحي الآن لن أبخل بها عليه وأنا دائم التواصل معه حتى اللحظة. أتصل به كلما سنحت الفرصة عن طريق الانترنت بعد أن أصبح أستعمال الموبايل صعبا في الموصل وسأكون أول من يذهب إلى الموصل للاطمئنان عليه وعلى عائلته بعد تحرير الموصل، لن أنسى وقفته معنا».
نهاية الرحلة وخاتم الزواج
بعد عشرة أيام في ضيافة الصديق الجبوري تم الاتفاق مع سائق يمكن الوثوق به على مبلغ (٧٥٠٠٠٠) دينار عراقي لإخراج العائلة من الموصل وإيصالها إلى دهوك.
وحين حانت لحظة الإنطلاق في الجزء الأخير من الرحلة المحفوفة بالمخاطر، قررت زوجة الصديق الجبوري أن تذهب معهم في السيارة حتى تتأكد بنفسها أنهم وصلوا أول سيطرة للبيشمركة وستعود مع السائق.
تقول أم هاوين: وقفت زوجة الجبوري أمام الجميع قبل أن نصعد إلى السيارة وقالت للسائق:
هذه أجرتك وأنا سأتي معكم أيضاً. أتمنى أن يصلوا بأمان. وأنا لا أملك معي غير خاتم زواجي هذا لكني أعدك أمام الجميع إذا أستطعت أن توصلهم إلى دهوك سأعطيك خاتمي هدية فوق أجرتك».
كانت أم هاوين تحكي وقد امتلأت عيناها بالدمع وخنقت العبرة صوتها:
“بعد كل ما فعلوه لنا كان موقف الزوجة رائعاً لا يمكننا نسيانه”.
وبالفعل حين وصلنا إلى أول سيطرة للبيشمركة أحتضنتنا ونزعت أمامنا خاتم زواجها وأعطته للسائق وودعناها بالدمع وهي تحمد الله على سلامتنا.
ملاحظة: هذه القصة منقولة بالتفصيل على لسان أصحابها وهي أحد الأمثلة على أن الشر مهما طغى والخيانة مهما انتشرت فهناك دوماً بريق أمل وسط الظلام يضيء قلوبنا ويكون دعوة صادقة للتفكير في أن أولى خطوات الحل هو أن نواجه الحقيقة ونضع النقاط على الحروف لنتجنب التعميم ونميز بين المذنب والأصيل فكلاهما موجود في كل مكان.