هل تحــــــل (الألــــواح الرقميــــة) محل الكتب في المكتبات ؟

ريا محمود

مكتبتا آشور بانيبال وسابور
تُعدّ مكتبة سابور واحدة من أبرز وأقدم المكتبات التي أسست في بغداد خلال العصر العباسي، إذ يعود تأسيسها إلى القرن التاسع الميلادي. أسسها الوزير سابق بن سابور، الذي كان وزيراً للخليفة العباسي المقتدر بالله.
امتازت مكتبة سابور بأنها كانت مركزاً علمياً وثقافيا متقدماً في ذلك العصر، إذ احتوت آلاف الكتب والمخطوطات في مختلف العلوم، بما في ذلك الأدب والفلسفة والطب والفلك والرياضيات. كانت المكتبة مفتوحة للعلماء والمفكرين من مختلف أرجاء العالم الإسلامي، وكانت تستقطب العديد من الباحثين للدراسة والتعلم.
لسوء الحظ، فإن المكتبة واجهت تدميراً كبيراً خلال الغزو المغولي لبغداد عام 1258م، حينها دمر العديد من المكتبات، بما في ذلك مكتبة سابور، وضاع الكثير من الكتب والمخطوطات النادرة.
تبقى مكتبة سابور اليوم رمزاً للتراث العلمي والثقافي الذي كان مزدهراً في بغداد إبان العصر الذهبي الإسلامي.
وقبل سابور، كانت مكتبة آشور بانيبال واحدة من أقدم المكتبات المعروفة في التاريخ، وقد أسسها الملك الآشوري آشور بانيبال (668–627 قبل الميلاد) في مدينة نينوى، عاصمة الإمبراطورية الآشورية في العراق القديم. تعتبر هذه المكتبة من أعظم الإنجازات الحضارية التي قدمتها الإمبراطورية الآشورية، وواحدة من أوليات المكتبات التي جرى فيها جمع وترتيب المعرفة بطريقة منظمة.
تأريخ بشري
احتوت مكتبة آشور بانيبال آلاف الألواح الطينية التي كانت تُكتب باللغة الأكدية باستخدام الخط المسماري، وكانت تضم مواضيع متنوعة تشمل: العلوم، مثل الفلك والرياضيات، الأدب، مثل ملحمة جلجامش، وقصص أخرى من الأدبين السومري والبابلي، والقوانين والنصوص الإدارية والسياسية التي تشرح قوانين الإمبراطورية الآشورية وأساليب إدارتها.
مكتبة آشور بانيبال تُعد اليوم رمزاً للتراث العراقي الغني، وإحدى أقدم المكتبات التي عرفها التاريخ البشري، التي مهدت الطريق لفكرة المكتبات الكبرى التي جاءت بعدها في الحضارات المختلفة.
تمثل مكتبة آشور بانيبال أول محاولة جادة لحفظ المعرفة وتوثيقها من أجل الأجيال القادمة. وكان الهدف منها أن تكون مركزاً للتعلم والدراسة، إذ أراد الملك آشور بانيبال أن يخلّد إرثاً فكرياً، يجمع فيه كل المعرفة التي تمكن من الحصول عليها من مناطق مختلفة من إمبراطوريته.
صروح معمارية
في الدول المتقدمة، يحاول المهتمون والقائمون على المكتبات إدامة المكان وتحويله إلى ملتقى أدبي وثقافي يجمع الأفراد بعائلاتهم، إما بمحاضرة أدبية، أو توقيع كتاب، أو عرض فلم محلي، أو فعالية صغيرة. كما تحرص بعض المدن على إبراز مكتباتها واعتزازها بها كتراثٍ وصرحٍ معماري وعلمي وثقافي، مكتبة الإسكندرية مثال على ذلك. إذ قامت الحكومة المصرية، بالتعاون مع الأمم المتحدة، بإنشاء مكتبة كبيرة عام 2006، بالقرب من آثار مكتبة الاسكندرية الشهيرة، التي يعتقد أن الملك بطليموس أمر بإنشائها، لتفتتح في عهد ابنه بطليموس الثاني عام 288 قبل الميلاد. وكانت في حينها أول مكتبة عامة للشعب.
وفي إحدى القرى السويدية (hogsby) عام 2011 جرى افتتاح بناية مكتبة عامة جديدة بدل القديمة الصغيرة، أقامت البلدية كرنفالاً ابتهاجاً بافتتاح المبنى عن طريق عمل طابور من السكان يقف بعضهم قرب بعض ليصلوا بين البنايتين، وقاموا بتمرير ألف كتاب باليد من شخص إلى آخر لتستقر في نهاية المطاف على رفوف المكتبة العامة الجديدة، وكان الهدف من هذه الفعالية هو مد جسور المعرفة والمحبة وتعزيز شعور الانتماء للمكان.
مبادرة دنماركية
تنتشر اليوم حول العالم مكتبات عامة جديدة تحت مسمى (مكتبة الإنسان)، هذه المكتبات تعتمد على النموذج الأساسي الذي قدمه (روني أبيرجل)، حيث تجري (استعارة) أشخاص من خلفيات وتجارب متنوعة للاستماع إلى قصصهم، ما يساعد في تعزيز التفاهم وكسر الصور النمطية.
روني أبيرجل (Ronni Abergel) هو ناشط اجتماعي أسس هذه المبادرة في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن عام 2000. جاءت فكرة (مكتبة الإنسان) لتعزيز التفاهم بين الناس، وتقليل التمييز من خلال إنشاء مساحة يمكن فيها للأشخاص (استعارة) آخرين والاستماع إلى قصصهم. أراد روني عبر هذه المبادرة أن يتيح للناس فرصة للتفاعل مع أشخاص ذوي تجارب وخلفيات مختلفة، مثل أولئك الذين يواجهون التمييز أو سوء الفهم بسبب اختلافهم في العرق، أو الدين، أو الحالة الصحية، أو التوجهات، ما يساعد في كسر الصور النمطية. تنظم فعاليات (مكتبة الإنسان) في ثمانين دولة حول العالم، إذ تقام الفعاليات في أماكن متنوعة مثل المكتبات العامة، والجامعات، والمهرجانات الثقافية، وأماكن العمل، ما يسهم في توسع تأثيرها وإيصال رسالتها الإنسانية إلى مجتمعات مختلفة.
المكتبة المركزية
المكتبة المركزية في بغداد تُعد واحدة من أقدم المكتبات العامة في العراق، وقد تأسست للمرة الأولى في ثلاثينيات القرن العشرين. تضم المكتبة مجموعة غنية ومتنوعة من الكتب والمخطوطات النادرة التي تغطي مختلف المجالات، مثل الأدب، والتاريخ، والعلوم، والفنون. تقع المكتبة في جانب الرصافة من بغداد، في منطقة باب المعظم، وهي تتبع إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية.
تعرّضت المكتبة، كسائر المؤسسات الثقافية، لتحديات عديدة بسبب الاضطرابات التي شهدها العراق. دخلتها قبل أيام وشعرت بالحزن والأسى، فالبناية تعاني من الإهمال. هذا الصرح الذي احتوى بين رفوفه مختلف أحلام وأطاريح أبنائه، هذا الصرح الذي كان قبلة للباحثين والطلاب والمثقفين والعاملين في مجال العلوم والطب والهندسة والصيدلة والعلوم الإنسانية على حد سواء.
صومعات الباحث
أنا من جيل اعتمد على (كارتات) الجارور في رواق المكتبة لأعرف رقم الكتاب وفي أي رف أجده، وكان يسمى بـ (نظام ديوي للتصنيف وترقيم الكتب Dewey Decimal Classification – DDC). كانت المتعة حين تسلمني أمينة المكتبة الكتاب وتختم الكارت في مقدمة الكتاب وتختم كارتي الخاص باستعارة الكتب، والختم يبلغني عن موعد إعادتي الكتاب إلى المكتبة، وبخلافه يجري تغريمي درهماً عن اليوم الواحد.
كان يحق لنا أن نستعير خمسة كتب مرة واحدة، ولا يحق لنا إخراج الإنسكلوبيديات أو الدوريات، بل علينا أن نستعين بقاعة المكتبة واستغلال مساحاتها الواسعة الهادئة وكراسيها المريحة لنقلب المراجع ونأخذ منها مانريد، كما أننا كنا نستخدم الورقة والقلم في كتابة أي النصوص نحتاج من هذه الكتب. أما الشخص الذي لا يرغب بمشاركة الطاولة فيمكنه أن يستغل مكاتب الطابق الثاني التي سميت بـ (الصومعات)، إذ يدخل الباحث في صومعته هارباً من ضجيج المارّين والباحثين والسائلين. كان طقس المكتبة يمثل لي ولغيري طقساً محبباً نسافر فيه بين الكتب ونتطلع للترجمات والبحوث وننهل منها ما نريد من الماضي والحاضر ونبحر نحو المستقبل.
تحديات ومخاوف
المكتبة المركزية في الوزيرية تعاني اليوم من الإهمال وقلة الكادر، بالرغم من أنها تحوي كنوزاً من المخطوطات والمعارف والعلوم، إضافة إلى الأقراص المدمجة التي أضيفت إليها بعد عام 2003، إلا أن غالبية كنوزها لم تتم عملية نقلها إلى الرقميات لكي يتمكن أبناء اليوم ممن يستخدمون الألواح الرقمية من متابعة الأطاريح والمخطوطات القديمة. وبالرغم من توفر مكتبة رقمية داخل المكتبة المركزية، إلا أنها تضم الأبحاث والأطاريح الحديثة التي سلمها الباحثون للمكتبة على شكل أقراص بعد عام 2006.
يتوافد في اليوم الواحد على المكتبة المركزية في الوزيرية من 20 إلى 30 باحثاً وطالب دراسات عليا، يحاول العاملون بكل أريحية مساعدة هؤلاء الباحثين في إيجاد مصادر لبحوثهم، لكن المكتبة تفتقر للأطاريح العالمية والكتب المترجمة الصادرة حديثاً، لذا يعزف طلبة العلوم الطبية والهندسية عن الدخول إلى المكتبة، ويؤمها طلبة التاريخ والآثار والعلوم الإنسانية والباحثون في تاريخ واجتماع البلد.
غالبية أكاديميي العراق اليوم، من الأجيال القديمة، كانت المكتبة المركزية تمثل لهم جسراً للمعرفة والعلم والإرث الثقافي.
دعوة
هي دعوة للجهات المختصة والمهتمة بالإرث الثقافي أن تدعم جامعة بغداد وبقية جامعاتها للحفاظ على مكتباتنا العامة من الاندثار أمام حيتان الاستثمارات التجارية، الذين ما عاد يهمهم الإرث الثقافي مقابل الربح المادي والتجارة.
فبلد آشور بانيبال، أول من صنع رفوف الكتب وقيّرها لكي يحتفظ بالرقم والمنحوتات ليصلنا الخط المسماري، وبلد مكتبة سابور، من حقه أن يعلّم أبناء جيل الألواح الرقمية أن أجداده هم أول من صنع اللوح المعرفي وصفّه في صفوف ليصنع منه مكتبة تنير دروب الأجيال.