إياد الخالدي /
في التاسع من نيسان 1980، نفّذ نظام صدام حكم الإعدام بالمرجع والمفكر الإسلامي الكبير السيد محمد باقر الصدر (قدس الله سره) وأخته الطاهرة آمنة الصدر (بنت الهدى). وهو ذات اليوم من العام 2003، الذي شهد سقوط النظام.
فبعد أقلّ من عام على استئثاره بالسلطة في تموز 1979، أقدم صدام على إعدام السيد الصدر، إمعانا في منهجه الدموي الإجرامي بفرض سلطته على الشعب العراقي، والتخلّص من رموزه الوطنية والدينية، وأبرزهم المرجع الصّدر، الذي لم يخفِ رفضه للنظام ، بل عمل على التصدي له وتوسيع نطاق نشاطاته وتحركاته السياسية والدينية، وأفتى بحرمة الانتماء إلى حزب البعث.
ليلة إعدام الشهيد
في يوم التاسع من نيسان، وفي عتمة الليل، حين أطفئت الكهرباء في مدينة النجف الاشرف ، تسللت مجموعة من العناصر الأمنية إلى بيت المرحوم محمد صادق الصدر، والد الشهيد الثاني محمد محمد صادق الصدر، وكان رجلاً كبيراً في السن ليبلغوه بإعدام الشهيد آية الله العظمى محمد باقر الصدر وأخته العلوية الطاهرة بنت الهدى. وطلب المرحوم محمد صادق الصدر حينها رؤية جثتي الشهيد وشقيقته، فسمحوا له برؤية وجه الشهيد فقط، ثم قامت العناصر الأمنية بدفن جسديهما الطاهرين في مقبرة وادي السلام دون أن يضعوا دليلاً أو شاهدة على قبريهما، ليتسلم منذ تلك اللحظة الشهيد محمد محمد صادق الصدر راية التصدي لهذا النظام المجرم.
شاهد وشهيد
وبعد سقوط النظام، أخبر الشخص الذي تولى عملية دفن الشهيد الصدر عائلته بموقع القبر، وقادهم إلى الموقع، وقامت العائلة بإخبار الأتباع الذين جاءوا إلى المكان وقرأوا سورة الفاتحة ووضعوا «شاهدة» من المرمر كتب عليها: «هذا قبر الشهيد آية الله العظمى محمد باقر الصدر، استشهد في 9 نيسان 1980».
وذكر الشخص الذي تولى عملية دفن الشهيد أن أشخاصاً من مخابرات النظام جلبوا الجثة إلى المقبرة تحت جنح الظلام وسط حراسة مشددة، وامتنعوا عن إخباره بهوية الضحية، لكنه تعرف عليه من ملامح وجهه، وكانت هنالك آثار تعذيب شديدة بادية على وجهه وجسده، وأنه حين قام بدفنه رأى خاتمه في إحدى اصابعه وحفظ نقش الخاتم، وحين اتصل بزوجة الشهيد الصدر أخبرها عن هذا الخاتم ومواصفاته، فأكدت بشكل جازم أنه خاتم الشهيد.
وبعد فترة قام الدفان بنقل جثمان السيد الصدر إلى مكان آخر من دون علم أحد، خوفاً عليه من عبث رجال السلطة، حتى سقوط النظام، حين ذهب إلى عائلته وأخبرها بمكان القبر.
أسرة علمية
ولد الشهيد الصدر في مدينة الكاظمية في 1 آذار 1935 الموافق ليوم 25 ذي القعدة عام 1353 هـ. لأسرة دينية عريقة، فوالده هو العالم والمفكر حيدر الصدر، ووالدته هي كريمة الشيخ عبد الحسين آل ياسين، شقيقة المرجع الديني المحقق الشيخ محمد رضا آل ياسين. وينتمي الشهيد إلى عائلة الصدر العلمية التي برزت منها شخصيات دينية عدة، منهم شقيقته بنت الهدى، وابن عمه محمد صادق الصدر، والسيد موسى الصدر، وإسماعيل الصدر، كما أنه والد زوجة السيد مقتدى الصدر.
ظهرت عليه إمارات النبوغ والعبقرية مبكراً، ابتدأ دراسته في السنة الخامسة من عمرهِ، وأنهى الدراسة الابتدائية في سن الحادية عشرة من عمره، ثم اتجه إلى الدراسات الدينية في الحوزة العلمية؛ حيث أكمل دراسة السطوح في فترة قياسية. وحصل على الاجتهاد في سن الثامنة عشرة، فأصبح أحد الأعلام الكبار في الحوزة العلمية، وارتفع اسمه في الأوساط العلمية، وقيل إنه قد حصل على الاجتهاد قبل البلوغ؛ وكان ذلك بسبب عدم تقليده لأحد من المراجع، حتى تسلم المرجعية الدينية منذ منتصف عقد السبعينيات (في الأربعين من عمره تقريباً).
تظاهرات النجف
روى الشيخ محمد رضا النعماني، مرافق الشهيد أية الله العظمى محمد باقر الصدر، أن النظام أقدم على اعتقال السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره الشريف)، وفي نفس اليوم خرجت جماهير النجف بتظاهرة احتجاج غير مسبوقة، هيأتها الشهيدة بنت الهدى، التي ذهبت في صباح اليوم الثاني لاعتقاله إلى مرقد الإمام علي (عليه السلام) وخطبت بالناس فتجمع حولها عدد من تلاميذ الشهيد والناس، وخرجوا في شوارع النجف مطالبين بإطلاق سراح الشهيد، وامتدت التظاهرات لتشمل أحياء متعددة من المدينة، وأغلقت جميع المحال أبوابها، وكان النظام -حينها- يريد إعدام الشهيد، لكنه تراجع وأطلق سراحه في نفس اليوم، لكنه فرض الإقامة الجبرية على الشهيد المرجع محمد باقر الصدر.
النظام يرسل المبعوثين إلى السيد الشهيد
وبعد مدة من فرض الإقامة الجبرية على الشهيد الصدر، بدأ النظام يرسل عناصره للتفاوض معه، وكان أولهم مدير أمن النجف، الذي أراد أن يستشف موقف السيد الصدر من فرض الإقامة عليه، فقال له السيد إنه غير متضايق من الإقامة الجبرية.
وأوضح أن النظام حاول اغتيال الشهيد بإرساله عدداً من المبعوثين من النظام لاستكشاف مواقف السيد الصدر عن طريق ارسال مجموعة من عناصر الأمن بحجة الحفر في الشارع لمحاولة هدم بيت السيد الشهيد، وبالفعل بات منزل الشهيد، المكون من غرفتين، آيلاً للسقوط، وعائلة الشهيد محجوزة، وتحملت العيش في بيت خاو على حافة الانهيار في أية لحظة، في محاولة منهم للضغط على السيد الشهيد، كما عملوا على قطع المياه عن بيت السيد.
وبعد مدة جاء شخص اسمه (أبو علي) مقرب لمصدر القرار برفقة مدير أمن النجف، وتحدث عما أسماه بالموقف السلبي للسيد الصدر، وطلب منه أن يمتدح النظام في مقابلة صحفية ويعلن براءته من آية الله الخميني، ويسحب فتواه التي تحرم الانتماء إلى البعث والإشادة ببعض الأعمال لصدام كمحو الأمية، وعندما لمس المدعو أبو علي عدم استجابة الشهيد لمطالب النظام، قال للسيد “ياحيف هذا الوجه تاكله الكاع” فابتسم السيد الشهيد.
وخلال هذه الفترة حاول السيد (حيدر الأديب)، وهو من عائلة طيبة، أن يجد نوعاً من العلاقة بين الشهيد والنظام، بحيث ألا يكون الشهيد في موضع المعادي للنظام أو المتصالح، لكن السيد الشهيد لم يغير موقفه.
وإذا كان صدام وجلاوزته قد انتهوا إلى أسوأ مصير، هاربين من الشعب والقوات الأمريكية، حتى قبض عليه ذليلاً في حفرة، فإن الشهيد آية الله محمد باقر الصدر قد استعد للشهادة وتلقاها بإيمان وثقة بالله، دون أن يتخلى قيد أنملة عن مبادئه، لذلك ظل رمزاً للشجاعة والتصدي للطغاة، حياً في ضمائر المؤمنين على امتداد خارطة العالم.