فاطمة محسن /
تتدفق الرؤى الشعرية في كتاب الظلال، عبر ستراتيجية شعرية تحمل ثيمة الظل منذ العنوان حتى أعماق النص، ظل مشحون بالألم والقلق، القلق الذي أشعل الأسئلة وعمّقها في قلب الشاعر الذي كلما نظر إلى القاعة وجدها مقفرة، الشاعر الذي يكتب الشعر ظلالاً موجعة، ظلاً إثر ظل، ليحتمي به من شمس مهلكة أحرقت بداخله كل خضار، وتركته مضمخاً بأسئلة الهزيمة، الأسئلة التي تطرح رؤى الشاعر عن هزيمة فاجعة نمر بها جميعاً جرّاء كابوس الحياة المريرة، هذا الكابوس الذي أفقنا عليه لنجد قاعة الشعر مقفرة، والشاعر يحاول أن يكسر قارورة الأسئلة في ظل الصوفي:
أنا هذا الباحث الواجدُ في الماء فراديسَ
وفي العقل متاريسَ
وفي لؤلؤة الإنسان معنى
فهذا الباحث يحمل رؤيا (والرؤيا أشمل من القصيدة) تمتد جذورها فهماً وعمقاً في أرض يتأرجح فيها الشاعر بين بين لا يملك فيها حتى نفسه، يصطدم فيها
بالأقفال التي تحبط كل الرؤى:
الفكرة مفتاح الفكرة
والأقفال هي الأقفال
الشاعر الذي يجد في الكلمة روعة الخليقة وتفتق سر الحياة، هو نفسه الشاعر الذي يصارع ظل الظل ليهرب من ضبابية المستقبل، أمام هذه السيطرة لليل
والظلمة والفزع:
ليس في الجبهة إلا الظلُّ
والظلمةُ .. والعقلُ المقنعْ
فاحترس من وهج الريح
ولون العطر
ديباج الحكايات
وفيروز النبوّات
غدا موتك يسطعْ
إنه الموت الذي لا ينقذنا منه إلا الحب، لكن هذا الحب أبعد غوراً مما نستطيع أن نصل إليه رغم أنه هو الغاية والمقصد للنجاة وللهرب من كل الظلال لكنه رغم شعبيته في كتاب “الظلال” حيث يمشي فتتبعه الحشود ليس سوى ظل خفيف:
هو لوثة الإنسان
صندوق الأساطير العظيمة
لونُ كل ولادة
وبريقُ كل عبادة
هو ما نريد … ولا نمس
هو ما نحس .. ولا نحس
وهو الوجود بكل بهجته
تناقضه .. تقلبه
هو الموت المخبأ في حياته
يواصل الشاعر رحلته مع الظلال، يدخل عالم اللغة بعد أن خاض غمار ظل البحر وأغرقه مطر الأسئلة، يتلمس المسكوت عنه، يشير إليه، فيتسرب الصمت إلى معانيه التي تدل على هوية مبدعها عبر سياق شعري متناسق تماما مع لغة رصينة منسجمة مع إدراك الشاعر للحقل الدلالي الذي ترمي إليه دوائر الظلال النصية لأكثر الأشياء هلامية وهشاشة:
ظلٌ تشرب في الزمان
وفاض ليلاً في المكان
هو ما سكتنا عنه
لا ما قيل
ما استعصى على التأويل
أو ما قد تطاير في ظلام القول
من شرر المعاني
يحاول الشاعر رغم كل كبوات الحياة أن يرقص على الرماد لتمنحه الحياة قوة أسطورية كطائر الفينيق لينهض من جديد تاركاً معاناته دافعاً بنفسه للأمام في محاولة للوصول إلى نهاية سعيدة لرحلة الألم الطويلة ولغلبة الخصب والحياة على الموت، لكن ظل الحياة يأخذه من عذاب الى عذاب وإلى عتمة غالبة يصفها فيقول:
هي عتمة في الضوء
يأسٌ آملٌ
وعمى يكابد لوعة الإبصار مثخنة بكل الحزن
ترفلُ في الحضورِ
وفي الغياب
هنا تحتدم التجربة حين يقترب الشاعر من فكرة الموت وهي تتشكل عنده في قوام شعري يعتمد على كثافة المعنى في قبول فكرة الموت:
متلفع بثياب مخبر
ظل نراه ولا نراه
وعيونه الذؤبان
تقبل كل ثانية .. وتدبر
لصٌ نبيٌ
حارسٌ للسجن
صياد دؤوب
لا خلاص لمن رماه
وبين أسئلة لحوح لظل الحرب وظل الحرية تلك الثمرة الشهية العاشقة المرغوبة البهية الرشيقة التي غادرت الشاعر وتركته ينزف الأسئلة:
هل سنرقب مطلعها من جديد؟
أم سنرسل بيعتنا بالبريد؟
كي تعود أميرتنا الغائبة؟
ينزوي ظل الحرب ثقيلا أسودَ يدخّن أعمارنا ويحصدها فيصرخ فيها الشاعر:
قلت : يا أمنا الحرب
أرضعتِنا القطرانَ طويلاً
فهل من فطامٍ لهذا السواد
لم تجبني
وراحت تلونُ بالأحمر الدموي البيوتَ
الشوارعَ
سورَ المحطة
مدرسة الحي
سوقَ السراي
وكلّ البلاد .. وكلّ البلادْ
بين الطريق والطريقة يأخذنا الشاعر مسكوناً بفتنة الشعر حتى نتبعه في غوايته الجميلة نصفق بشدة ليتردد صدى كلماته في مقدمة الكتاب وهو يصيح بنا لقد أقفرت القاعة فهل نصدقه ونغادر أم نرقص للرماد كي نحيا بالشعر من جديد.