خولة محمد/
اكتشف القارئ العربي اسم ألبرتين سارازان قبل عامين، وذلك بعد ترجمة مؤلفها “شعر ورسائل” الصادر عن دار “هن” للنشر والتوزيع، التي عرفت نفسها بأنها فضاء نسوي، وقد تأسست خصيصاً من أجل كسر هيمنة الرجال على النشر وتمكين النساء من تمثيل ذواتهن في نصوصهن.
ألبرتين سارازان اسم مجهول للقارئ العربي رغم أهمية ما قدمته للأدب الفرنسي، إذ وصفها النقاد في فرنسا بأنها أفضل من يكتب جمل البداية في الروايات، وقد اشتهرت جملتها الأولى في روايتها “الكاحل”: “تعالت (ابتعدت) السماء بعشرة أمتار على الأقل،” وقيل إنها من أجمل جمل البدايات في الرواية الفرنسية الحديثة.
لم تبتعد السماء عشرة أمتار فقط عن ألبرتين سارازان، بل ابتعدت أيضاً بعض الأشياء الأخرى في حياتها، ابتعدت عنها الحياة السويّة لأي طفل، الحب الأسري والطفولة السعيدة، هي أشياء جابهتها ألبرتين بالرفض والتمرّد والعشق. إننا نقف إزاء سيرة متفردة مختلفة، سيرة قلقة لامرأة مقلقة لضوابط المجتمع التي انهارت تماما أمامها، سيرة لامرأة ستجرفك بعيداً عن نواميس المجتمع وفكرة الأخلاق والحرية، سيرة مربكة لامرأة تحطم كل مسلماتك ورؤيتك الخاصة لتعيد التفكير في معنى الحياة، يبدأ العالم في لحظة حرية وينتهي بالنسبة لها إن انتفت الحرية.
تداول الفرنسيون سيرة واسم ألبرتين سارازان في أواخر خمسينيات القرن الماضي بعد نشر روايتها الأولى “الكاحل” التي صدرت سنة 1957 وحققت آنذاك مبيعات خيالية وصلت إلى ثلاثة ملايين نسخة. ألبرتين سارازان ليست مجرد كاتبة فرنسية من أصول جزائرية، بل إنها تتجاوز سيرة كاتبة بأشواط كبيرة، إنها امرأة بحجم حياة كاملة، حياة بكل تناقضاتها وأحزانها وقلقها، حياة اختزلتها تسعة وعشرون عاماً هي حياة ألبرتين سارزان القصيرة المزدحمة بالتفاصيل والمغامرات والفجائع.
مغامرات مجنونة
تبدأ فصول حياتها بمغامرات مجنونة وتنتهي نهاية مأساوية: السجن، والبغاء، والكحول، والكتابة، هي فصول متعددة، لكنها فصول متشابكة ومترابطة في حياة كاتبتنا الشقية ألّف ما بينها الحزن، الحزن وحده من يصنع نصاً يصمد في وجه الزمن كما بقيت رواياتها.
ثلاث روايات: الكاحل، الهروب، العبّارة، ثلاث روايات جعلت منها وريثة الأدب الفرنسي، وخمسون قصيدة تركتها ألبرتين سارازان لتؤثث ليل المشردين البارد، ورسائل تبادلتها مع كل من زوجها والكاتب والناشر الفرنسي “جون جاك بوفرت( 1926 – 2014) “، الذي آمن بموهبتها الفذة في الكتابة، ترجمت أعمالها إلى ست لغات، ولم يترجم، إلى حد هذه اللحظة، إلى اللغة العربية إلا كتابها “شعر ورسائل”، قامت السينما الفرنسية بتقديم سيرة حياتها “الكاحل”، وتقمصت ليلى بختي، ممثلة فرنسية من أصول جزائرية، شخصية ألبرتين وأجادتها إلى حد كبير.
بدأت فصول المأساة باكراً جداً، ولدت ألبرتين من علاقة غير شرعية بين فتاة إسبانية ورجل جزائري سنة 1937 في الجزائر العاصمة، وأودعت في مركز الإعانات الاجتماعية إلى أن تبنتها عائلة فرنسية دون أطفال سنة 1939 ومنحتها -فيما بعد- اسم ألبرتين داميان.
رغم اسمها الفرنسي ونشأتها في عائلة فرنسية، إلا أن ألبرتين كانت تحمل ملامح عربية، ملامح أبناء الجزائر، موطنها الأصلي، ملامح عربية لامرأة أطاحت بسطوة المجتمع المخملي الفرنسي، ولاسيما أن والدها بالتبني طبيب عسكري فرنسي برتبة كولونيل.
غادرت ألبرتين الجزائر في سن العاشرة مع عائلتها نحو فرنسا سنة 1947 وحملت معها تفاصيل كثيرة عن الجزائر، ربما كانت تشكل الأمان الذي فقدته، فيما بعد، تحدثت عن ذكريات الجزائر في لقاءات صحفية عدة.
عالم الجريمة
بدأت مغامراتها المجنونة في باريس، المدينة التي عشقتها، باريس عاصمة الأنوار، وعاصمة الضوء الذي اخترق أعماقها وبدد الخوف لديها، لا وقت للخوف، كل الوقت للحياة، لقد سبقت طريقتها الصاخبة في العيش كلماتها عن الحرية، حريتها التي كانت تنشدها من خلال باريس، حريتها التي شكلت كينونتها، إنها امرأة معجونة برياح الحرية.
دخلت عالم الجريمة في سن السادسة عشرة، حين حاولت سرقة مصرف بصحبة صديقتها، التي ولجت معها حياة الانحراف من أوسع الأبواب: بغاء وسرقة ، إذ ألقي القبض عليها وحوكمت بـثماني سنوات سجناً في كانون الأول 1953.
لم تتقبل ألبرتين فكرة أن تكون مسجونة، وهي التي تمردت على كل الأشياء والقيم والعائلة واختارت حياة المشردين و”الأناركيين”، وهي التي أجابت القاضي أثناء محاكمتها عن أنها كانت نادمة عما فعلته فأجابت ببساطة: “ليس لدي أي ندم، عندما أحصل عليه سأخبركم.”
كانت حياة ألبرتين قاسية، لكنها كانت وقود الكتابة لديها ومصدر إلهامها. بعد سنتين من محاكمتها هربت ألبرتين من السجن، وأثناء هروبها أصيب كاحلها، لتبقى تلك الإعاقة شاهدة على فصل من حياة شقيّة اعترفت بها بكل جزئياتها في روايتيها “الكاحل” و”الهروب”.
لم تتقبل ألبرتين فكرة السجن، فهي ولدت “حرّة” لم يمتلكها أحد، لا عائلة أو مجتمع أو جدران سجن، هي ملك نفسها ولن يقدر أحد على أن يمتلكها سوى رجل يستطيع ترويض قلبها الشجاع، قلب امرأة تسلقت جدران السجن، عشرة أمتار، فصلت بينها وبين الحرية لتهرب بعيداً عن أسوار سجنها.
أثناء هروبها من السجن تعرفت ألبرتين سارازان على جوليان سارازان الذي أخفاها عن أعين الشرطة، ومثل لها الحب الكبير الذي استوطن أعماقها وجعل منها عاشقة أكثر للحياة والحرية، الحب الذي منحها التوهج بعد العتمة.
سمراء واثقة
حظيت هذه المرأة العرجاء، ذات الملامح العربية، بإعجاب الرجل الأبيض، لقد أحبت سارازان نفسها كثيراً ولم تتأثر بإعاقتها الطفيفة، كان هذا يجذب لها الرجال المنبهرين بسمراء واثقة، لكنها كانت تختار زبونها بشكل انتقائي، لا تقبل إلا من يستهويها لدقائق ثم تتركه، رغم أن الكثير من زبائنها وقعوا في حبها، لكن قلبها كان لجوليان سارازان، الحب الذي جعل منها امرأة عاشقة بطريقة مختلفة جداً.
خرجت ألبرتين من السجن كاتبة مشهورة، لكن الحياة لم تمنحها الكثير من الحظ، لتنتهي حياتها بعد سنوات قليلة من حريتها وسعادتها مع زوجها، إثر خطأ طبي، وذلك أثناء إجرائها عملية استئصال الكلية في سن صغيرة لم تتجاوز التاسعة والعشرين سنة 1967.