أيها المثقف المدعي.. هل تعرف أحمد بن عبد الوهاب؟

محمد غازي الأخرس
أحمد بن عبد الوهاب، كاتب من معاصري الجاحظ، مفرط الغباء، كثير الادعاء، يقرأ دون فهم، ويقتني الكتب دون تدبر. ويبدو أنه خاصم أبا عثمان مع قصوره عن بلوغ عشر معشار ما لديه، ثم انتهى به الأمر إلى أن تحول إلى أضحوكة اصطنعها الجاحظ، وأراد بها تفكيك صورة المثقف المدعي ليكون عبرة لنا. فعل الجاحظ ذلك عبر (كتاب التربيع والتدوير)، الذي وضعه بمئة وخمس صفحات، بحسب طبعة المعهد الفرنسي بدمشق عام 1955.

ولئن كانت الرسالة مخصصة بمجملها لابن عبد الوهاب هذا، إلا أنها تصلح للآلاف من أحفاده الذين جاءوا بعده، وتنطبق تمام الانطباق على مثقفي عصرنا.
لهذا، لم يكن غريباً أن يستلهم القاص الراحل موسى كريدي تلك الشخصية المدعية، ويذكرها في نهاية مقالة شديدة اللهجة كتبها في مجلة (الكلمة) – العدد 3 أيار، 1973 السنة الخامسة – وفكك بها تهافت المثقفين وازدواجيتهم وادعاءهم بما ليس فيهم.
قصور عقلي
قبل ذلك، لنرجع إلى صاحبنا الجاحظ، الذي رسم ملامح أحمد بن عبد الوهاب كما يفعل رسام الكاريكاتير، ثم أردف ذلك بالسخرية من قصوره العقلي المتوافق مع تشوه صورته الجسمانية. يبدأ الجاحظ بالقول: “كان أحمد بن عبد الوهاب مفرط القصر، ويدعي أنه مفرط الطول، وكان مربعاً، وتحسبه لسعة جفرته واستفاضة خاصرته مدوراً. وكان جعد الأطراف قصير الأصابع، وفي ذلك يدعي السباطة والرشاقة، وأنه عتيق الوجه أخمص البطن معتدل القامة تام العظم. وكان طويل الظهر قصير عظم الفخذ، وهو مع قصر عظم ساقه، يدعي أنه طويل الباد، رفيع العماد، عادي القامة، عظيم الهامة قد أعطي البسطة في الجسم والسعة في العلم، وكان كبير السن متقادم الميلاد، وهو يدعي أنه معتدل الشباب حديث الميلاد.”
على أن كل ذلك لم يكن سوى مدخل لتبيان الصفتين الأبرز فيه وهما؛ حب المراء، والادعاء بما ليس فيه. لذلك تراه كلفاً بالجدال، مكثراً في الاعتراض، ميالاً إلى الخلاف والمغالبة والمعاندة، مع اتصافه بالجهل، وافتقاره الحجة، وعجزه عن الرد والإفهام. والكارثة أنه بدل أن يعرف قدره ويقف عند حده، نراه يطاول كبار الكتاب في عصره وينافرهم في المحافل. يخاشن الجاحظ نفسه، ويستهين بالأصمعي، وابراهيم النظام. وهذا ما حدا بالجاحظ إلى فضحه ونزع قناعه المزيف حتى أصبح أمثولة تاريخية للمدعين بغير علم، من أمثال أولئك الذين يصفهم موسى كريدي في مقالته الغاضبة، فيقول: “ما زال الأديب العراقي وجوداً هشا أو حالاً سديمية، أذ لا أرض له تسنده ولا ملامح تميزه، فأي تاريخ يشير إليه؟ إنه أسير وهم كبير، وقناعة ثابتة لا يمكن أن تستفز فيه أعماقاً أو رؤى.” لماذا هو كذلك؟ ببساطة لأن “ارتباطه باليومي والمألوف من الأحداث والوقائع ارتباط هامشي، وأن وعيه بحركة الواقع وإدراك المعرفة قاصر، وأن ثقافته ضئيلة واستيعابه محدود.”
بل إن حياته الرتيبة، العقيمة، بما فيها من تقليد وموت مبكر، تخلو من المعنى. ولاشك في أن هذا البؤس الواضح في تجربة المثقف العراقي اليومية “لابد أن ينعكس أثره في ذلك الفقر الفاجع في تجربته الجمالية عبر فن القول. إنه أسير رغبات آنية ومواقف هتافية، فليس لتجربته عمق ولا لرؤيته امتداد.” بل إنه قانع بما أنتج وقرأ وسمع ورأى، “متقوقع كسول، ثرثار، كثير الشكوى، مغتبط بما لديه، سرعان ما يستجيب لهذا الخاطر الفج أو لتلك العاطفة العامية.” إنه بالضبط ما يفعله أحمد بن عبد الوهاب، السطحي الذي يقرأ ولا يفهم، أو كما يصفه الجاحظ، “يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها.”
وعي اجتماعي
اتصالاً بهذا، في أحد حواراته، يقف الراحل هادي العلوي أمام من يقرأ بدون وعي اجتماعي، في تقسيمه للناس، فيقول إن هناك الأمي، أي الفرد العادي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وليس له نصيب من الثقافة المكتوبة. وهناك الجاهل الذي قد يقرأ ويكتب، ويكون له نصيب من الثقافة المكتوبة، إلا أنه “يسيء فهم حقائق الأشياء ويفتقر إلى الوعي الاجتماعي أو السياسي. ويصدر عن الجاهل المثقف من التصرفات والأفكار الضارة أكثر مما يصدر عن الأمي.”
بالنسبة لموسى كريدي، الذي استلهم (كتاب التربيع والتدوير)، فإنه يغرق في تفكيك صورة المثقف مستعيناً بفرضية ازدواج الشخصية. فصاحبنا المثقف “مزدوج الشخصية مزدوج الولاء والتفكير والسلوك، فهو يؤمن بالثورة وتحولاتها نظرياً، لكنه عملياً لا يسلك سلوك أبسط الثوريين، وهو يؤمن بحتمية الصراع الطبقي وانتصار البروليتاريا، لكنه يحتقر كل ها هو بروليتاري.” إنها الفكرة ذاتها التي خطرت في ذهن هادي العلوي، فالمثقف عنده “لا يبكي أمام الشحاذ أو ماسح الأحذية، لأن ثقافته غربية، ووجدانه مترجم.” وهذه تجربة استخلصها من معايشته لهم، تراهم “يبكون على الجياع في أشعارهم ولا يبكون عندما يرونهم، لا يلعنون الدولة التي جعلتهم شحاذين أو ماسحي أحذية.” (حوار الحاضر والمستقبل، سوريا دمشق، دار الطليعة الأدبية).
انتهازية المثقف
نعم، إن العلوي ناقم على المثقفين، شأنه شأن يوسف عز الدين وموسى كريدي ونزار عباس وعبد الملك نوري ونجيب المانع وعلي الشوك، وسواهم. شخصياً أحتفظ لهؤلاء وغيرهم بشذرات رائعة وتصريحات غاضبة على أحفاد أحمد بن عبد الوهاب الذي فضحه الجاحظ. يقول العلوي إن أكثرية المثقفين متكالبون على الامتيازات، مأخوذون بالخساسات الثلاث؛ المال والجنس والجاه، وهي خساسات “يجعلونها من صميم العمل الثقافي”، وقلما تجد فيهم “مثقفاً يرضى بالكفاف في العيش أو يقتنع بامرأة واحدة هي زوجته أو يتعالى على الشهرة والجاه. وهذا هو السبب في ضعف تأثيرهم، وفي نفس الوقت عدم احترام الحكومات لهم، لأنها تعرف رخاوتهم وانتهازيتهم.” بل إنهم في عمومهم يعملون بشعار “قل كلمتك وأمش”، بمعنى أنهم بعد أن يقولوا كلمتهم يتركونها للقارئ من غير أن يتحملوا مسؤوليتها، ويضيف “عندنا شعراء يلطمون في شعرهم على الحياة، لكن حلمهم الأقصى هو الحصول على قصور يسكنونها ليكتبوا فيها الشعر، لأن الشعر عندهم لا يكتب إلا في ظروف جيدة، ولا أستطيع التسمية لأن فيهم عمالقة وأصدقاء.”
نعم، غالبية منتقدي المثقفين لا يسمونهم، لأن فيهم عمالقة وأصدقاء، وهو ما لم يفكر به الجاحظ حين شخص خصمه، أحمد بن عبد الوهاب، بالاسم وترك لنا كتاباً كاملاً عنه..
متى نفعل ذلك مع أصحابنا وإن كان فيهم عمالقة وأصدقاء؟