إنخيدوانا ابنة سرجون الأكدي.. أول شاعرة عرفها التاريخ

علي لفتة سعيد/
يبدو أن الشعر كان واحداً من أدوات الإلهام الإنساني منذ بداياته الأولى، كما كان مرافقاً له في البحث عن سبل الحياة والتفكير بما حوله. فمثلما كان يسعى للحصول على الحضارة والتقدّم والتوسع، كان يفكّر بالمخيلة على أنها وسيلة لمواجهة الحياة، فالشعر ليس ترفاً، أو مضاداً لواقعٍ مريرٍ، أو تعبيراً عن خلجات الروح، بل إنه راسمٌ للحضارة.
وهو الأمر الذي يعيد الى الأذهان ما جرى العثور عليه من مخطوطات ورقيمات طينية، إذ إن الحضارة العراقية دائماً ما تبدأ منها الأحداث. والشعر منبته عراقي، إذ إن (إنخيدوانا) هي أقدم امرأة شاعرة في التاريخ، بحسب علماء الأدب والتاريخ، مع انها وصلت إلى أعلى رتبة كهنوتية في الألف الثالث قبل الميلاد، حينما عينها أبوها الملك سرجون الأكدي في هذا المنصب لما كانت تتمتّع به من روحٍ شاعرةٍ ومحبة للحياة، وقد كرّست حياتها للإلهة إنانا، إذ كانت تكتب التراتيل ليرددها المصلون.
المعنى والدلالة
معنى اسم إنخيدوانا، أو أناهيدوانا، التي عاشت ما بين (2285-2250 ق م)، الكاهن أو الكاهنة الأعلى، و(هيدو) معناها زينة الكاهن الأعلى للإله آن، أو حلّة، وهو اسم يشير إلى الإله نانا (سين) إله القمر، كما تذكر المصادر، وأن نسبها لا يرجع فقط لأن أباها ملك، بل لأن أمها الملكة (تاشلولتوم) كانت كاهنة عالية المقام من كاهنات إله القمر نانا، وهي الكاهنة الأعلى عند السومريين في مدينة أور، وهي، أي الشاعرة، عمّة الملك الأكدي نرام سين.
ولأن العبادات منذ الأسطورة الأولى بحاجةٍ الى تراتيل، فالأمر يبدو طبيعياً حين يكون هناك من يكتب هذه التراتيل على شكل أشعار يردّدها المصلون. ولأن العلاقة بين الكهنة والآلهة تعتمد على كمية التراتيل وما فيها من أشعار، فإن قوة الشعر تأتي من قوّة الشاعر، وقد كانت إنخيدوانا تمتلك الموهبة التي جعلتها تكتب الأشعار لتكون أول شاعرة عبر التاريخ، وكان شعرها مكرساً للآلهة، وكانت قصيدتها، أو الترتيل الذي تكتبه، يعدان من أوائل النصوص الشعرية. وهو الأمر الذي جعل سرجون الأول يدوّن الكلمات على أحد الرُقم الطينية شارحاً قصة مولده:
“والدتي الكاهنة حملتني جنيناً، وأنجبتني سرّاً، ووضعتني على فُلكٍ من ورق البردي، وأحكمت رتاج الباب. حملني النهر إلى فلاح اسمه أكّي، الذي رباني كابنه. خلال عملي في عزق الحدائق، رأتني عشتار وأحبتني. وعلى مدى أربع وخمسين عاماً كان الملُكُ لي.”
يشير الباحث الدكتور حسن عبيد عيسى إلى أن “إنخيدوانا ألّفت 42 ترنيمة، وجهت إلى المعابد الموجودة في بلاد سومر وأكد، منها معابد أريدو وسيبار وإشنونة، وقد أعيد إنشاء النصوص في 37 لوحاً أثرياً ذكر أشعارها في مدينتي أور ونيبور. معظم هذه الألواح الأثرية تعود إلى زمن سلالة أور الثالثة والفترات البابلية القديمة.” (سوبرغ وبرغمان 1969: 6-7)
يضيف عيسى أن “أوّل مجموعة شعرية حملت عنوان (تراتيل المعابد السومرية)، وتقول فيها (يا مليكي، خُلق شيء لم يخلق أحد مثله من قبل).”
إنخيدوانا لم تكن مجرد شاعرة بل إنها منحت القوّة لنساء مملكة والدها وفي بلاد ما بين النهرين. وما يشير له الباحث عيسى من أن “تاريخ العراق كان مليئاً بالقوّة والشجاعة والحكمة والشعر، وأن ملحمة جلجامش برغم مجهولية المؤلف، واحدة من أعظم النصوص الشعرية. ولهذا ظلّت معظم الكتابات مجهولة، باستثناء شعر الكاهنة إناهيدوانا، أو إنخيدوانا التي اكتشف بعض شعرها العقيد (وولي) حين كان ينقب في أور سنة 1922، وعرف من قرص مفخور يحوي صورة طقوسية لها، أنها ابنة الملك سرجون الأكدي، أوّل ملك موحد للعراق. من ذلك القرص عرف العلماء أن سرجون شخصية حقيقية وليست أسطورية كما كانوا يعتقدون.” ويشير عيسى إلى أن “سرجون عيّن ابنته الوحيدة، التي جاءت عقب خمسة أولاد كاهنةً للمعبد في أور. وقد أجادت إنخيدوانا في مهنتها، ولاسيما أن أمها سومرية، ما جعل لغة البلاد مألوفة لديها، كما أنها عرفت طبيعة الآلهة التي ستقوم على خدمتها باعتبارها آلهة الحب والجمال، ما جعل الكاهنة تمجد بجنسانية آلهتها وتبدع في وصفها.”
النص النثري الأول
للشاعرة ثلاث قصائد طوال هي: (السيدة ذات القلب العظيم -40 صفحة) وقصيدة (إينانا وأبة -15 صفحة) علماً أن (أبة) هو جبل حمرين، وقصيدة (تسبيح لإينانا – حوالي 25 صفحة). ويشير الباحث إلى أن الشاعرة عانت بعد وفاة أبيها من سوء إدارة أخويها، إذ قتل (مانتيشتوشو) أخاه (ريموش) ليستولي على العرش. ولم تنتظم الأمور إلّا في زمن حكم ابن أخيها نارام سن.
وتعد إنخيدوانا، هي أوّل شاعرة تكتب قصيدة النثر، وإن كانت عبارة عن تراتيل، كما في نصّها الذي يحمل عنوان (تسبيح من أجل إنانا)، الذي تقول في جزء منه: