آيه منصور _ تصوير :صفاء علوان/
مكان ساحر، لا تجده سوى في أفلام ديزني للأطفال، قلبك يمتنع عن تركه ولا يستطيع تخيّل “المشحوف” وهو يقلّك إلى اليابسة مرة أخرى، أي إلى الحقيقة التي لا تريد العودة اليها، فكان السحر هناك، عند الأهوار.
الأهوار التي تعرضت لظلم، كما لم تتعرض بقعة جغرافية على الأرض، عندما قام الطاغية،بتجفيفها وقتل كل حيّ فيها، من النبات والحيوان مروراً بالإنسان الذي انتهت حياته بموت موارد عيشه.
بعد سقوط الطاغية عادت الحياة الى الاهوار هذه الفئة المتبقية من جينات السومريين، الذين ما زالوا يحتفظون بـ”270″ كلمة آرامية وأكدية وسومرية متداولة على ألسنتهم، يستخدمون المشحوف ويصيدون السمك ويعتمدون على حيواناتهم من أجل الطعام، لا يعترفون بالحياة الجديدة، بل يفضلون حياة أجدادهم السومريين البسيطة.
حسناً، وبعد كل هذا، وبعد دخول الأهوار إلى لائحة التراث العالمي “اليونسكو” ما الذي تغير بعد سنة؟ وما الذي سيتغير؟ هل ستصبح هذه المنطقة محظوظة أكثر؟ وترى العناية ولو متأخرة؟. هنا جولة لـ “الشبكة العراقية” في أعماق أهوار الناصرية:
الملف المزدحم
يعد دخول الأهوار إلى لائحة التراث العالمي من أجل قضيتين رئيستين وهما الأهوار كملف وكوجود، وضعت الجهات المعنية خطة إدارة جيدة لهذا المكان، ولولا وجود هذه الخطة للسنتين المقبلتين لما صادقت اليونسكو على ترشيح ملف الأهوار، مع عدة توصيات على العراق إكمالها في موعد أقصاه 1 ديسبمر 2017 وهي:
توفير الحد الأدنى من المياه اللازمة للأهوار، وزيادة الدراسات المتعددة حول التنوع الإحيائي في المنطقة، وإشراك السكان بخطة الإدارة، والعمل بمزيد من الشفافية في إدارة مواقع النفط، لكون الأهوار تحوي العديد من حقول النفط مثل الحلفاية، وغرب القرنة والزبير النفطي والرميلة الشمالي، أي أن المطلوب هو الحفاظ على الأهوار بعيداً عن التلوث النفطي.
عام دخول السبلت
بعد معاناة عقود طويلة صار بوسع البعض من سكنة الأهوار التمتع بهواء بارد يخفف وطأة حر الصيف، لهذا وأنت تسير بين المياه سترى أجهزة التبريد المختلفة وهي تستند على أكواخ طينية بعيدة عن البيوت الرئيسة للأهواريين.
يقول أبو حيدر (55 عاماً) وهو متزوج من ثلاث نساء وله أكثر من عشرة أولاد: هذه السنة الأولى لدخول “السبلت” إلى الهور، لقد كان بمثابة معجزة أنقذت أطفالنا من الجحيم الارضي، طبعاً يجلبه من لديه الأطفال فقط، إذ أن الكبير نسبياً يستطيع التحمل، فيتم بناء كوخ “جمّالي” من الطين، من أجل تشغيله أثناء وقت ذروة الحر.
فيما لا تزال الكثير من العوائل تفتقر لهذا الكائن التبريدي، فضلاً عن الهاتف والإنترنت وسواهما. مجتمع ينام ويصحو مع الطبيعة والشمس، إذ لا
لا كهرباء في الهور، ولا ثلاجات أو مجمدات، ولا ماءً بارداً منذ الأزل، ومن يريد أن يروي عطشه بمياه باردة، عليه
جلب “قالب ثلج” ليوم واحد.
لا تعليم في هذه الأرض
فيما يرى أبو حسن أنه وبرغم دخول الأهوار رعاية اليونسكو إلا أن التغيير لم يحدث ولم نر غير البعض من الوافدين يأتون لرؤية الطبيعة، فهم لا يرون أبسط الأمور التي تنقص الأهالي كالتعليم الذي ما يزال سكان الأهوار يفتقرون إليه.
يضيف أبو حيدر “أولادي في ميسان يعيشون عند أقاربي من أجل دراستهم، إذ لا نملك حتى اليوم مدرسة، جميعنا لا نقرأ ولا نكتب، كما أن المياه تنقص كثيراً منذ شهر نيسان حتى تشرين الأول، والسبب كوننا في آخر العراق فلا يصلنا إلا بقايا الماء فتموت حيواناتنا في الصيف بسبب قلة المياه التي تكون قريبة من درجة الغليان!
يذكر أن مياه الأهوار وبسبب التوزيع يقل منسوبها منذ نيسان حتى تشرين الأول، إذ يزرع مزارعو النجف، الرميثة، الوركاء والسماوة والبو ريشة وغيرهم “نبتة الشلب” التي تحتاج لكميات كبيرة من المياه، فتغلق المعابر التي تنقل المياه إلى الأهوار وتنحصر في تلك المزارع فقط حتى ينتهي موسم الشلب ثم تعود المياه “الطبيعية” إلى الأهوار.
التراث الثقافي
الخبير المائي لمنظمة “طبيعة العراق” جاسم الأسدي، يؤكد أن الاتفاقية مع اليونسكو لم تنحصر بملف الأهوار كقضية إحيائية فقط، بل تعدت ذلك إلى التراث الثقافي غير المادي، أي الطقوس والأساطير والعادات والتقاليد والتراتيل وكل ما يتعلق بداخل المضيف والهور بصورة شفاهية، إذ ان الأهوار دخلت كتراث طبيعي مادي.
الأمر ليس بهذه السهولة
ويرى الأسدي أن خطة الإدارة تحتوي على بنى تحتية لقطاعات الصحة، التعليم، والكهرباء والأكل والشرب، لكن يجب أن تكون هذه البنى حصراً “صديقة للبيئة” ولا تضر أو تؤثر بوجودها على المظهر الأهواري الشعبي أو تقوم بإلغائه، أي يجب استخدام “القصب والطين” فقط عند البناء.
ويمضي الأسدي قائلا “لقد قمنا بإحضار ماكينة من أميركا تقوم بصنع 3 طابوقات طينية في الدقيقة الواحدة، دون أن تتفتت بالماء وذلك بمزيج من الرمل والطين “مأخوذ من الأرض نفسها” واسمنت بنسبة 6% اذ تمكن ستة من أبناء الأهوار من صنعها بعد دخولهم في ورش تدريبية في السليمانية.
وأضاف “برغم صعوبة الخطوات التي لا تزال في بدايتها، إلا أن التقرير الوطني الذي يجب أن يسلم إلى اليونسكو في موعد اقصاه 1 ديسمبر قد شارف على الانتهاء. فما يهم هو ما بعد دخول الأهوار إلى التراث العالمي وليس مسألة “دخولها اليونسكو” فقط.
خسارات مقبلة
وتكشف مصادر مطلعة أن الأهوار مقبلة على مواسم هائلة من الجفاف حتى عام 2030 وهي معرضة لخسارة تقدر بـ 11 مليار مكعب من المياه.
ويؤكد الأسدي قائلاً “نحن الآن نحاول معرفة كيفية توفير الحد الأدنى من المياه من أجل الحفاظ على النظام الآيكولوجي، إذ أن التغير المناخي يحدث لكون المياه إقليمية من تركيا وإيران، وهاتان الدولتان أقامتا العديد من السدود الكبيرة في الفترة الاخيرة.”
لكن مع هذه الخطة التي وضعتها وزارة الموارد المائية إلا أن المياه لا تزال تذهب بالقطارة إلى الهور الذي تعادل مساحته مساحة 27 بلداً في العالم..
ويعلل الأسدي حدوث ذلك بسبب أن الأهوار تقع في نهاية العراق حسب وصفه إذ يقول:
– لكون الأهوار تقع في آخر العراق، يستغل المزارعون الآخرون ذلك، ولا يلتزمون بخطة الوزارة، إذ من المقرر، على سبيل المثال، زراعة 100 ألف دونم من الشلب، في المحافظات الأخرى لكن تمت زراعة 200 ألف دونم هذا العام. وبالطبع تم ذلك على حساب المياه المقرر وصولها إلى الأهوار.